الساعات الأخيرة قبل الرحيل

الساعات الأخيرة قبل الرحيل

يابن العمّ إذا قضيت نحبي فاغسلني ولا تكشف عنّي، فإنّي طاهرة مطهّرة، وحنّطني بفاضل حنوط أبي رسول الله صلى الله عليه وآله، وصَلِّ عليَّ، وليصلِّ معك الأَدنى فالأَدنى من أهل بيتي، وادفني ليلاً لا نهاراً،

 كانت السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام في ذلك اليوم الذي توفيت فيه طريحة الفراش، وقد أخذ منها الهزال كلّ مأخذ، وما بقي منها سوى الهيكل العظمي فقط، لقد رأت أَباها في المنام وهو يقول لها: "هلمّي إليّ يا بُنَيَّة فإنّي اليك مشُتاقٌ" ثمّ قال لها: "أنتِ الليلةَ عندي".

انتبهت من غفوتها واستعدّت للرحيل إلى الآخرة، فقد سمعت من أبيها الصادق المصدَّق الذي قال: "من رآني فقد رآني". سمعت منه نبأ ارتحالها فلا مجال للشكّ والتردّد في صدق الخبر. فتحت عينها واستعادت نشاطها ولعلّها كانت في صحوة الموت وقامت لاتّخاذ التدابير اللازمة، واغتنمت تلك السويعات الأخيرة من حياتها، أقبلت الزهراء تزحف أو تمشي متّكئة على الجدار نحو الموضع الذي فيه الماء من بيتها، وشرعت تغسل ثياب أطفالها بيديها المرتعشتين، ثم دعت أطفالها وطفقت تغسل رؤوسهم، ودخل الإمام عليّ عليه السلام البيت وإذا به يرى عزيزته قد غادرت فراش العلّة وهي تمارس أعمالها المنزلية.

رقّ لها قلب الإمام حين نظر إليها وقد عادت إلى أعمالها المتعبة التي كانت تجدها أيام صحتها، فلا عجب إذا سألها عن سبب قيامها بتلك الأعمال بالرغم من انحراف صحّتها، أجابته بكلّ صراحة لأن هذا اليوم هو آخر يوم من أيام حياتي، قمت لأغسل رؤوس أطفالي وثيابهم لأنّهم سيصبحون يتامى بلا اُم، سألها الإمام عن مصدر هذا النبأ فأخبرته بالرؤيا، فهي بذلك قد نعت نفسها إلى زوجها بما لا يقبل الشك. وصيّة الزهراء عليها السلام للإمام عليّ عليه السلام وفي الساعات الأخيرة من حياتها حان لها أن تكاشف زوجها بما أضمرته في صدرها طيلة هذه المدّة من الوصايا التي يجب تنفيذها. فقالت عليها السلام لعليّ عليه السلام: " يابن عمّ إنّه قد نُعيت إليَّ نفسي وإنّني لا أرى ما بي إلاّ أننّي لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة، وأنا اُوصيك بأشياء في قلبي " قال لها عليّ عليه السلام: "أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ".

فجلس عند رأسها ، وأخرج من كان في البيت ثم قالت: " يابن عمّ ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني "؟ فقال عليّ عليه السلام: " معاذ الله أنتِ أعلم بالله، وأبرّ وأتقى وأكرم وأشدّ خوفاً من الله من أن أُوبّخكِ بمخالفتي وقد عزّ عليَّ مفارقتكِ وفقدكِ إلاّ أنّه أمر لا بد منه، والله لقد جددتِ عليَّ مصيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وقد عظمت وفاتك وفقدك فإنّا لله وإنّا اليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضّها وأحزنها!! هذه مصيبة لا عزاء منها، ورزية لا خلف لها ".

ثم بكيا جميعاً ساعة، وأخذ الإمام رأسها وضمها إلى صدره ثم قال: " أوصيني بما شئت فإنّكِ تجديني وفياً أمضي كلّما أمرتني به، وأختار أمركِ على أمري ". فقالت عليها السلام: "جزاكَ الله عنّي خير الجزاء، يابن عمّ اُوصيك أولاً:أن تتزوّج بعدي.... فإنّ الرجال لا بدّ لهم من النساء " ثم قالت عليها السلام: "اُوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني فإنّهم عدوّي وعدوّ رسول الله، ولا تترك أن يصلّي عليَّ أحد منهم ولا من أتباعهم، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار "1.

ثم قالت عليها السلام: "يابن العمّ إذا قضيت نحبي فاغسلني ولا تكشف عنّي، فإنّي طاهرة مطهّرة، وحنّطني بفاضل حنوط أبي رسول الله صلى الله عليه وآله، وصَلِّ عليَّ، وليصلِّ معك الأَدنى فالأَدنى من أهل بيتي، وادفني ليلاً لا نهاراً، وسرّاً لا جهاراً، وعفَّ موضع قبري، ولا تشهد جنازتي أحداً ممن ظلمني، يابن العمّ أنا أعلم أنّك لا تقدر على عدم التزويج من بعدي فإن أنت تزوّجت امرأة اجعل لها يوماً وليلةً، واجعل لأولادي يوماً وليلةً، يا أبا الحسن ! ولا تصح في وجوههما فيصبحا يتيمين غريبين منكسرين، فإنّهما بالأمس فقدا جدّهما واليوم يفقدان اُمهما2.

وروى ابن عباس وصيّة مكتوبة لها عليها السلام جاء فيها:" هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله أوصت وهي تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأَنّ الجنّة حقّ، والنار حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأَنّ الله يبعث من في القبور، يا عليّ أنا فاطمة بنت محمّد، زوّجني الله منك لأكون لك في الدنيا والآخرة، أنت أولى بي من غيري، حنّطني وغسّلني وكفّني بالليل، وصلِّ عليَّ وادفني بالليل، ولا تُعلم أحداً، وأستودعك الله، وأقرأ على ولديّ السلام إلى يوم القيامة 3. أول نعش أُحدث في الإسلام روي عن أسماء بنت عميس أنّ فاطمة الزهراء عليها السلام قالت لأسماء: إنّي قد استقبحت ما يصنع بالنساء، إنّه يطرح على المرأة الثوب فيصفها لمن رأى، فقالت أسماء: يا بنت رسول الله أنا اُريك شيئاً رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجريدة رطبة فحسنتها، ثم طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة عليها السلام: "ما أحسن هذا وأجمله، لا تعرف به المرأة من الرجل4.

وعن أبي عبدالله الصادق عليه السلام: "أول نعش اُحدث في الإسلام نعش فاطمة، إنّها اشتكت شكاتها التي قبضت فيها، وقالت لأسماء: إنّي نحلت فذهب لحمي، ألا تجعلين لي شيئاً يسترني ؟ فقالت أسماء: إنّي إذ كنت بأرض الحبشة رأيتهم يصنعون شيئاً أفلا أصنع لك مثله ؟ فإن أعجبك صنعت لك، قالت عليها السلام: نعم، فدعت بسرير، فأكبته لوجهه، ثم دعت بجرائد ـ نخل ـ فشدّدته على قوائمه، ثم جلّلته ثوباً فقالت أسماء: هكذا رأيتهم يصنعون، فقالت عليها السلام: اصنعي لي مثله، اُستريني سترك الله من النار". لحظات عمرها الأخيرة انتقلت السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام إلى فراشها المفروش وسط البيت، واضطجعت مستقبلة القبلة. وقيل: إنّها أرسلت بنتيها زينب واُمّ كلثوم إلى بيوت بعض الهاشميات لئلاّ تشاهدا موت اُمهما، كلّ ذلك من باب الشفقة والرأفة والتحفّظ عليهما من صدمة مشاهدة المصيبة.

كان الإمام عليّ والحسن والحسين عليهم السلام خارج البيت في تلك الساعة ولعلّ خروجهم كان لأسباب قاهرة وظروف معينة. وجاء عن أسماء أنّ فاطمة الزهراء عليها السلام لمّا حضرتها الوفاة قالت لأسماء: "إنّ جبرئيل أتى النبيّ ـ لما حضرته الوفاة ـ بكافور من الجنّة فقسّمه أثلاثاً، ثلثاً لنفسه، وثلثاً لعلي، وثلثاً، لي وكان أربعين درهماً فقالت: يا أسماء ائتني ببقية حنوط والدي من موضع كذا وكذا، وضعيه عند رأسي، فوضعته ثم قالت لأسماء حين توضّأت وضوءها للصلاة: هاتي طيبي الذي أتطيّب به، وهاتي ثيابي التي اُصلي فيها فتوضأت" ثم تسجَّت بثوبها ثم قالت: "انتظريني هنيئةً وادعيني فإن أجبتك وإلاّ فاعلمي أنّي قدمت على أبي فأرسلي إلى علي".

 

المصدر: * سلسلة أعلام الهداية-فاطمة الزهراء"سيدة النساء"-، المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام، ط1، 1422هـ، ج3، ص186-192.

________________________________________ 1- روضة الواعظين: 1 / 151، وفي رواية: إذا هدأت الأصوات ونامت العيون.

2- بحار الأنوار: 43 / 178 و 192.

3- بحار الأنوار: 43 / 214.

4- كشف الغمة: 1 / 503، وبحار الأنوار: 43 / 213، وتهذيب الأحكام: 1 / 469

5-بحار الأنوار: 43 / 186. 

يا فاطمة، أما ترضيني أن تكوني سيدة نساء المؤمنين،أو سيدة نساء هذه الأمّة’(الرسول الأكرم)
يقول تعالى: ﴿... وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾
الإمام الباقر عليه السَّلام: ’ لكل شيء ربيع، و ربيع القرآن شهر رمضان ’.
عن النبي صلى الله عليه وآله: ’التوبة حسنة لكنها في الشباب أحسن’

من نحن

موقع ديني ثقافي وفكري يعنى بقضايا المرأة والاسرة والمجتمع

تواصل معنا

يسرّنا تواصلكم معنا عبر الايميل alzaakiyaa@gmail.com