المقصود من العاطفة هو الاستعداد والميل الفطريّ الداخليّ الذي يشكّل دعامة حبّ الإنسان لأخيه الإنسان. وعلى أساس هذا الاستعداد الفطريّ، يستطيع الإنسان أن يظهر ميوله الباطنيّة؛ منطلقاً من المحبّة والعطف لأبناء جِلْدَته، ومن خلال هذا الطريق يؤسّس معهم لعلاقةٍ قلبيّة وأنس وأُلفة. إنّ الاستعداد العاطفيّ في الإنسان يؤدّي لنموّ كثير من الكمالات.
وهذه الكمالات تشمل امتيازاتٍ تظهر في الإنسان استناداً لمحبّة الآخرين؛ من قبيل المحبّة والصداقة، والفداء والإيثار، والعفو والصفح، والجود والبذل، والتعاون، والشفقة والرحمة والمواساة. وبنحوٍ إجماليّ تقديم الآخرين على النفس. كما أنّ عدم الوفاء، والتغافل، والجهل بمكانة الآخرين وقدرهم، وعدم إبراز الاحترام عند الحاجة واللامبالاة عند الاستغناء، والقسوة، والعنف، والاهتمام والانشغال بالنفس، وعدم الاهتمام بالآخرين، وأمثال ذلك؛ كلّها نواقص روحيّة وأخلاقية منشؤها الفقر العاطفيّ.
والعائلة، هي المؤسّسة الأولى التي ينبغي أن تنمو فيها العواطف الإنسانيّة عند الأطفال. فالمحبّة والعطف التي تُنثر على الطِّفل من قِبَل الأمّ والأقارب؛ كالأب، والأخت، والأخ، لا يمكن أن يتلقّاها من أيّ شخص آخر. فلا يمكن لأيّ حاضنة أو ممرّضة أو قابلة أن تلعب دور الأمّ الطبيعيّ في حياة الطِّفل، وأن تشغل مكانها.
فعندما تحضن الأمّ طفلها بمحبّةٍ عارمةٍ وترضعه، أو عندما تناغيه وتحاكيه بكلّ كيانها؛ فيقفز بَريقُ العشق والمحبّة من عينيها، وينفذ إلى أعماق وجود طفلها، وحينما تبقى الأمّ إلى جانب طفلها طوال الليلِ تلاطفه، وتذيقه حلاوة المحبّة، وترسل حرارة العشق والعاطفة إلى كلّ ذرّة من ذرّات وجوده؛ فإنَّ حرارة العشق والعاطفة المنطبعة نفسها تنمّي بذور العاطفة في وجود الطِّفل، وتعرّفه على إكسير العشق وكيمياء المحبّة.
إنّ الأطفال الذين لا ينالون هذه القوّة المعنويّة من العائلة، لا يمكنهم أن ينمُّوا أنفسهم عاطفيّاً. وقد أُجريت أبحاث عن الأطفال الذين ترعرعوا في الميتم أو فقدوا أهلهم بسبب الحرب أو لأيّ سبب آخر، فكشفت أنّ هؤلاء الأطفال رغم توافر الرعاية والاهتمام البالغين يعانون من خلل عاطفيّ شديد. بلا شكّ، إنّ كثيراً من الاضطرابات الروحيّة، وعدم سكينة النفس، وارتكاب الذنوب، والانحرافات الأخلاقيّة والاجتماعيّة، والأمراض النفسية، والكآبة، وأمثال ذلك؛ منشؤها النقص العاطفيّ. وتعدّ ظاهرة اقتناء الحيوانات من قبيل: الكلاب، والقطط، وما شابهها داخل المنازل، وإيواء هذه الحيوانات الصامتة في البلدان الغربيّة، وإنفاق المبالغ المهولة لأجل هذا الغرض؛ هي في الحقيقة إجراءات لملء الفراغ العاطفيّ الحاصل.
الحذر من النقص العاطفي :
إنّ أيّ فقدانٍ أو نقصٍ في المحبّة يؤدّي إلى بروز عوارض غير مرضية عند الأبناء، ويبعث على الإحساس بالحقارة، وانعدام الشخصيّة، والانطوائيّة، وربّما يكون سبباً لبروز بعض الانحرافات السلوكيّة والتربويّة. لذا على الوالدين، وللحدّ من هذا النوع من الآثار غير المرضية، أن يُظهرا محبّتهما وعطفهما لأبنائهما. يحدّثنا الإمام الصادق عليه السلام عن أسلوب والده الإمام الباقر عليه السلام في تعامله مع أحد أبنائه فيقول: "والله إنّي لأصانع بعض ولدي، وأجلسه على فخذي، وأكثر له المحبّة، وأكثر له الشكر، وإنّ الحقّ لغيره من ولدي، ولكن محافظة عليه منه ومن غيره؛ لئلا يصنعوا به ما فُعل بيوسف وإخوته، وما أنزل الله سورة يوسف إلّا أمثالاً لكيلا يحسد بعضنا بعضا، كما حسد يوسفَ إخوتُه وبغوا عليه فجعلها حجّة ورحمة"1.
العطف والمحبّة في النصوص الدينية :
أوصى الإسلام في مجال تربية الأبناء بالعطف والمحبّة. وكانت مورد اهتمام خاصّ وظاهرة بشكل جلي في سيرة المعصومين. فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم بخصوص محبّة الأبناء والرأفة بهم، أنّه قال: "أحبّوا الصبيان وارحموهم، وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا لهم؛ فإنّهم لا يدرون إلّا أنّكم ترزقونهم"2. ويؤكّد الإمام علي عليه السلام على ضرورة إظهار الرحمة للأبناء، حيث يقول في وصيّته عليه السلام أثناء شهادته: "وارحم من أهلك الصغير"3. وأيضاً روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "أنّ النبي موسى عليه السلام سأل الله تعالى: إلهي!! أيّ عمل أفضل لديك؟ أجاب الله تعالى: حبّ الأطفال، فإنّي فطرتهم على توحيدي"4. وفي حديث آخر مرويّ عنه عليه السلام أيضاً: "إنّ الله عزّ وجلّ ليرحم الرجل لشدّة حبّه لولده"5. ومن جملة الأساليب العمليّة التي تساعد على إبراز الرحمة والعطف تجاه الأبناء، التالي:
1. ملاطفة الولد بالمسح على رأسه: ينقل في سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم العمليّة أنّه كان كلّ يوم صباحاً يلاطف أبناءه بالمسح على رؤوسهم: "وكان النبي صلى الله عليه واله وسلم إذا أصبح مسح على رؤوس ولده وولد ولده"6.
2. احتضان الولد: يقول الإمام علي عليه السلام: "وضعنِي فِي حِجْرِهِ وأنا وليدٌ يَضُمُّنِي إلى صدرِهِ، وَيَكْنُفُنِي في فراشه، وَيُمسُّني جسدهُ، وَيُشمُّني عَرْفَهُ، وكان يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقمُنيه"7.
3. التقبيل: جاء عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "أكثروا من قبلة أولادكم؛ فإنّ لكم بكلّ قبلة درجة في الجنّة؛ مسيرة خمسمائة عام"8. وروي أنّه جاء رجلٌ إلى رسول الله وقال: "ما قبّلت صبياً لي قطّ؛ فلمّا ولّى قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم هذا رجل عندي أنّه من أهل النار"9. وذات يوم قبّل الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم ولده الإمام الحسن عليه السلام. فقال أقرع بن حابس: أنا لدي عشرة أبناء وحتى الآن لم أُقبّل أحداً منهم. نظر الرسول صلى الله عليه واله وسلم إليه وقال: "من لا يَرحم لا يُرحم"10.
4. ملاعبة الأولاد: يقول الإمام علي عليه السلام: "من كان له ولد صبا"11. وينقلُ أيضاً: "أنّ النبي صلى الله عليه واله وسلم بَرَكَ للحسن والحسين عليه السلام ، فحملهما، وخالف بين أيديهما وأرجلهما، وقال نعم الجمل جملكما"12.
5. الإنصاف والعدالة: عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "اعدلوا بين أولادكم كما تحبّون أن يعدلوا بينكم في البرّ واللطف"13.
1- جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج21، ص419.
2- الكافي، ج6، ص49.
3- بحار الأنوار، ج72، ص136.
4- م.ن، ج104، ص97.
5- م.ن ، ج101، ص 91.
6- م.ن، ص 99.
7- نهج البلاغة، الخطبة 234.
8- وسائل الشيعة، ج21، ص 485.
9- م.ن، ص485.
10- م.ن، ج15، ص203.
11- وسائل الشيعة، ج15، ص203.
12- مستدرك الوسائل، ج15، ص 171.
13- بحار الأنوار، ج101، ص92.
المصدر: جمعية المعارف