لماذا نردد في صلاتنا مرارا كل يوم (إهدنا الصراط المستقيم)؟ أو لسنا الآن باعتبارنا مسلمين مؤمنين نسلك الصراط المستقيم؟
هل نشك في الخط الذي نسير عليه ونحتمل في أنفسنا الضلال؟ أم ماذا ؟.
في الواقع: إن الصراط المستقيم ليس طريقاً يبحث عنه الإنسان عند مفترق طرق فإذا ما اهتدى إليه سلكه واستمر في السير عليه مرة واحدة إلى الأخير، بل إن الإنسان في كل لحظة وأمام أي موقف أو قضية أو كلمة يجد أمامه طرقا كثيرة وخيارات عدة أحدها يمثل الصراط المستقيم بينما البقية طرق ملتوية معوجة .. وفي كل لحظة يتعرض الإنسان لخطر الانحراف والتنكب عن الصراط المستقيم الذي يسير عليه ولذلك يردد دائماً: (إهدنا الصراط المستقيم) ....
فالمطلوب ليس مجرد اكتشاف الخط الصحيح في الحياة والبدء بالسير عليه بل المطلوب هو استقامة السير والاستمرار فيه. إن الله تعالى يلفتنا أن نطلب منه الوقاية والسلامة من الزيغ والضلال بعد الهداية والصلاح فيعلمنا أن نقول: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)1. .
وفي مورد آخر يذكرنا الباري جل وعلا بقصة ذلك العالم الاسرائيلي الكبير بلعم بن باعوراء كنموذج سيء للسقوط في أوحال الكفر والضلال بعد أن كان متسنما لذروة الهداية والصلاح يقول عنه تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه فملثه كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون)2. ...
هكذا يكون الإنسان مهما كان درجة إيمانه معرضاً لخطر السقوط والانحراف في كل لحظة من لحظات حياته يقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة لا يتيقن الوصول إلى رضوان الله حتى يكون وقت نزع روحه)3. ..
إن المؤمن ليس معرضاً لخطر الضلال والانحراف كسائر الناس، بل إن وضعه أخطر وتعرضه لمحاولات الانحراف والضلال أكثر من الآخرين ... ولكن لماذا يصبح احتمال الانحراف وارداً في حياة الإنسان المؤمن ؟ يبدو أن هناك أسباباً عدة وراء ذلك وخاصة بالنسبة لنا كمؤمنين نعيش في هذا العصر
فأولاً: رواسب التربية والبيئة
إن أغلب العوائل في مجتمعنا لا تعرف شيئاً عن أساليب التريبة السلمية ولا عن مناهج الإسلام في التربية وتوجيه الأولاد ... وإن الأخلاق وطريقة التعامل التي ننشأ في ظلها ليست وفق ما يريد الإسلام مائة في المائة بل هي مليئة بالأخطاء والانحرافات ... وحينما يتربى الإنسان في مثل هذه الأوضاع والظروف فإنه حتى وإن توفق لإصلاح نفسه واهتدى إلى الصراط المستقيم في حياته فإن رواسب تلك التربية والبيئة قد يبقى بعضها في نفسه ليقذف به مهاوي الانحراف والضلال ...
ثانياً: تأثير الأجواء الفاسدة:
تعالوا لننظر في أية اجواء نحن نعيش؟ ومن أي هواء نتنفس؟ الإعلام الذي نستمعه ونراه من خلال الصحف والمجلات ومحطات الراديو والتلفزيون إعلام مضلل. والثقافة المتوفرة ثقافة قشرية ومنحرفة ... والقيم السائدة قيم جاهلية ومصلحية ... إن هذا الفساد الذي يغطي أجواءنا ويلف حياتنا قد يترك بعض آثاره على أفكارنا وممارساتنا شعرنا بذلك أو لم نشعر ...
ثالثاً : ضغوط الالتزام: ففي هذا العصر المادي وفي مثل هذه الأجواء الفاسدة التي نعيش، يصبح الالتزام بالمبادئ والقيم مصدر مصاعب ومتاعب وضغوط قاسية في حياة الإنسان المؤمن ... هذه الضغوط التي يعانيها الإنسان المؤمن... ولتحديه الأجواء الفاسدة ومواجهته للواقع السيء ... كل تلك الضغوط تسبب له مضايقة نفسية قد تؤدي إلى بعض التراجع والانهزام أو سوء الخلق...
رابعاً وأخيرا دور الشيطان :
إن وجود المؤمن في هذا العصر يشكل تحدياً صارخاً وكبيراً للشيطان فكيف إذا ما كان ذلك المؤمن رسالياً يعمل على هداية الآخرين، ونسف خطط الشيطان، وتخريب الأجواء عليه؟ إن المؤمن الرسالي هو أخطر جبهة يعمل الشيطان على مقاومتها ويوجه جهوده نحوها وأقل غفلة تمرّ على المؤمن الرسالي فإن الشيطان مستعد لاغتنامها حيث بالتسرب داخل حياته ولو من ثغرة بسيطة، وعبر ذنب صغير.
لذا جاء في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (والذي نفس محمد بيده لعالِم واحد أشد على إبليس من ألف عابد، لأن العابد لنفسه والعالِم لغيره)4 والسبب واضح فألف عابد ليست لهم فطنة وفقه في دينهم لا يجد الشيطان عناءً كبيراً في إضلالهم والانحراف بهم ومن ناحية أخرى فهم يشكلون خطراً محدوداً لا يتعدى أنفسهم لأن امتدادهم وتأثيرهم على الآخرين ليس وارداً ..
أما مؤمن يفقه دينه ويعيه بمختلف ابعاده فإن إضلاله مهمة شاقة وصعبة على الشيطان هذا أولاً وثانياً فإنه جبهة قابلة للتوسع والامتداد بواسطة تأثيره واستقطابه للآخرين ... من هنا يصب الشيطان كل جهوده واهتمامه على هذه الجبهة الخطيرة وهي: المؤمن الرسالي ... وقد جاءت النصوص الدينية عن أنبياء الله وأئمة الهدى تحذرنا من الغفلة وتؤكد علينا ضرورة استمرار التنبه واليقظة ... عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن كان الشيطان عدوا فالغفلة لماذا) ؟5. إ
حذروا مؤامرات الشيطان حينما يعمل الشيطان على إضلال المؤمن والانحراف به على جادة الصراط المستقيم فإنه قد لا يأتيه من قبل الذنوب الواضحة والمعاصي المكشوفة.. فلا بد من اختيار الخطة المناسبة التي يمكن أن تنطلي على المؤمن في لحظة غفلة أو سهو .. فعن أي طريق إذن يجيء الشيطان ؟؟ إنه يأتي للانسان المؤمن عن طريق دينه، فيحيك له مؤامرة يضفي عليها طابع الدين، وينصب له فخاً عليه مظاهر الطاعة والعبادة يقول الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) في دعائه: ( فلولا أن الشيطان يختدعهم من طاعتك ما عصاك عاص، ولولا أنه صور لهم الباطل في مثال الحق ما ضل عن طريقك ضال)6.
فباسم العبادة والإقبال على الصلاة الدعاء يهمل الجهاد في سبيل الله. وبمبرر التفرغ لإصلاح الذات وبنائها يكون التهرب من النشاط والعمل في سبيل الله ... ضمانات الاستقامة والآن: ما هي الضمانات التي يلجأ اليها الإنسان المؤمن لمواجهة أخطار الانحراف والضلال ؟؟؟. والجواب: إنها المزيد من الوعي واليقظة ومجاهدة النفس ... ولكي يتوفق الإنسان لذلك لا أفضل من التتلمذ على توجيهات ووصايا أئمة الهدى وجدهم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ... إنها وصايا يقدمها للبشرية أئمة شقوا أمام الإنسان طريق الاستقامة والنجاح ... وضربوا أروع المثل في الثبات على الطريق المستقيم رغم كل المصاعب والتحديات ..
هوامش:
. 1 ـ سورة آل عمران : ـ 8.
2 ـ سورة الأعراف : 175 ـ 176.
3ـ بحار الأنوار ، العلامة المجلسي ،ج24
4ـ ميزان الحكمة : ج 6 ص 461.
5 ـ سفينة البحار : ج 2 ص 323
6ـ الصحيفة السجادية دعاء : 37.
المصدر :من كتاب معرفة النفس، حسن موسى. (بتصرف)