عن الإمام الصادق (ع) قال: لم يكن رسول الله (ص) يقول لشيء قد مضى : لو كان غيـره 1.
فالمطلوب من المؤمن توطين نفسه على الرضا بالواقع كيف كان. ومنشأ عدم الرضا ، وتمنّي خلاف الواقع ، إنما هو الجهل بحِكم الأشياء ومصالحها ، فلو ظهرت للإنسان حكمة الأشياء لما تمنّى غير الواقع .
وإنّ واردة الهموم أعظم شيءٍ إفساداً للقلب، والقلب وقت اشتغاله بها معرضٌ عن ربه ، مشغولٌ عن التوجّه إليه سبحانه بما فيه من الهموم والأحزان. فالقلب إذا توجّه إلى ذكر الله ، وعطفه ولطفه ، ورأفته ورحمته ، فرّت عنه الهموم والأحزان والغموم. " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب "2 .
وأقلّ ما يتوسّل به الإنسان إلى تحصيل الرضا بالقضاء ، هو إلقاء الهموم والغموم عن القلب ، وتفريغ البال للتوجّه إلى حضرة ذي الجلال. فعند ذلك نشاهد ألطافه الخفية والجليَّـة ، (أليس الله بكافٍ عبده )3 . فالقضاء إن كان بالمحبـوب فهو المحـبوب ، وإن كان بما تكـره النفس فالواجب على العبد أن يسلّي نفسه بأنـه ربما اتسع المضيـق. فالحكيم لا بدّ أن يقلّب على عبده الأحوال ، لئلا يطمئن إلى حال ، ومراده أن يكون منقطعاً إليه في كل الأحوال. ويضاف إلى هذا ، بأنّ أكثر هذه الابتلاءات اختبارات ..
فإذا انكشف حال العبد إما بالصبر ، أو بالعجز ، أو بالضجر، وعرف من نفسه ذلك رفع الله عنه ذلك، وجعل عاقبة أمره يسرا . والأخبار الواردة في الحثّ على الرضا أكثر من أن تحصى، ومنها :
- الحديث القدسي: لا إله إلا أنا ، من لم يصبـر على بـلائي ، ولـم يرض بقضائي ، فليتخذ رباً سواي 4 .. وكفى بهذا التهديد الإلهي واعظاً لمن عقل ، ومنبّهاً لمن جهل.
- عن رسول الله (ص) : في كل قضاء الله عزّ وجلّ خيـرة للمؤمن 5...
وفي هذا المعنى شعر منسوب لمولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع ):
رضيت بما قسم الله لي ----- وفوضت أمري إلى خالقي
كما أحسن الله فيما مضى ------ كذلك يحسن فيما بقي
والقضاء أول ما يرد على العبد يرد بطور الإجمال
، يعني بحيث يمكن أن يكون نعمة وأن يكون نقمة ، وإن كان ظاهره أنه من نوع الابتلاء والعقوبة. (يمحو الله ما يشاء ، ويثبت ، وعنده أم الكتاب ) فإذا أحسن العبد الظنّ بربه ، وتفاءل بالخير، ووطّن نفسه على الرضا بالقضاء ، قلب الله ما ظاهره أنه نقمة ، وبدّله نعمة والعكس بالعكس.
فالعبد لا زال بسوء ظنّه، وقلّة رضائه بالقضاء ، وشدة انزعاجه من واردات الابتلاء ، يستجلب لنفسه بلاءً فوق بلاء ، ويقلب ما عليه نعمة إلى الوبال والنقمة. ولا شكّ أنّ الانقطاع إلى الله عزّ وجلّ ، والالتجاء إليه ، وحسن الظنّ به ، ومبادرة الأمر بالصدقة ، والدعاء ، وصلة الرحم ، لها تسبّبٌ في تبديل واردات القضاء.
كيف لا يرضى العبد بقضاء ربّه ؟.. وقد قال الله سبحانه وتعالى: "يا بني آدم !.. كلكم ضالٌّ إلا من هديت ، وكلكم عائلٌ إلا من أغنيت، وكلكم هالكٌ إلا من أنجيت ، فاسألوني أكفكم وأهدكم سبيل رشدكم.
إنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفاقة ، ولو أغنيته لأفسده ذلك. وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة، ولو أمرضته لأفسده ذلك. وإنّ من عبادي لمن يجتهد في عبادتي وقيام الليل لي ، فألقي عليه النعاس نظرا مني له ، فيرقد حتى يصبح ، ويقوم حين يقوم وهو ماقتٌ لنفسه ، زارٍ عليها ، ولو خلّيت بينه وبين ما يريد لدخله العجب بعملـه ، ثم كان هلاكه في عجبه ورضاه عن نفسه ، فيظنّ أنه قد فاق العابدين ، وجاز باجتهاده حدّ المقصّرين ، فيتباعد بذلك مني وهو يظنّ أنه يتقرّب إليّ به.
ألا فلا يتّكل العاملون على أعمالهم وإن حَسُنت، ولا ييأس المذنبون من مغفرتي لذنوبهم وإن كَثُرت، ولكن برحمتي فليثقوا ، ولفضلي فليرجـوا ، وإلى حسن نظري فليطمئنّوا ، وذلك أني أدبّر عبادي بما يُصلحهم ، وأنا بهم لطيفٌ خبير "6.
المصدر: كتاب الطريق إلى الله - الشيخ حسن البحراني _بتصرف
الهوامش :
1- الكافي : 2/52.
2- الرعد/28.
3- الزمر/36.
4- البحار : 79/132.
5- البحار : 68/139.
6- البحار : 68/140.