خرج الإمام الرضا عليه السلام عن موطنه وأهله وذويه من دون أن يكون له خيار في ذلك. ومما يثير الاستغراب أن الإمام الرضا عليه السلام قد أقام العزاء على نفسه قبل مغادرته المدينة، فقد روى الصدوق بسنده عن الحسن بن علي الوشاء، قال:" قال لي الرضا عليه السلام: إنّي حيث أرادوا الخروج بي من المدينة، جمعت عيالي، فأمرتهم أن يبكوا عليّ حتى أسمع، ثم فرّقت فيهم اثني عشر ألف دينار، ثم قلت: أما إنّي لا أرجع إلى عيالي أبداً ".
وبعد، فأين كانت السيدة فاطمة المعصومة من هذا كله؟ وما هي حالها وهي ترى شقيقها يتركها في المدينة وينتقل إلى خراسان حيث الغربة والعناء وفراق الأهل وجوار الرسول صلّى الله عليه وآله؟ ولو كان الأمر بيده أو بيدها لخرجت معه ولسارت حيث يسير، وعاشت حيث يعيش، ولكنّه خرج مقهوراً تاركاً عياله وأخواته حتى ابنه الإمام الجواد عليه السلام، الذي كان له من العمر سبع سنوات، بل أقلّ من ذلك كما يستفاد ممّا ذكره الشيخ المفيد رحمه الله حيث قال: ومضى الرضا علي بن موسى عليهما السلام ولم يترك ولداً نعلمه إلا ابنه الإمام بعده أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام وكانت سنّه يوم وفاة أبيه سبع سنين وأشهراً.
وكان خروج الإمام الرضا عليه السلام من المدينة سنة 200هـ وشهادته سنة 203هـ. وقد اعتصر قلب السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام من الألم ولوعة الفراق، وعلمت من خلال ما جرى أنّ أخاها لن يعود، وكانت في جملة الباكين عليه، وقد سمع بكاءها وحسرتها على فراقه، ولعلّه أسرّ إليها أو علمت من خلال مجرى الأحداث بما سيقدم عليه من آلام ومآسي. وسار الموكب الرضوي يقطع البيد والمفاوز والقفار ميمّماً نحو خراسان حيث مركز حكم المأمون وسلطانه.
ومضى عام على رحيل أخيها عنها فهاجت بها لواعج الحنين والشوق إلى أخيها الغريب، وقد علم الإمام عليه السلام بحال أخته، فإنّها لم تغب عن قلبه، وهو يعلم شدّة تعلّقها به، فكتب إليها كتاباً يطلب منها القدوم عليه، وأعطاه أحد غلمانه، وأمره بالمسير إلى المدينة ولا يلوي علي شيء، ولا يقف في طريقه إلا بمقدار الضرورة ليوصل الكتاب في أسرع وقت ممكن، وقد أعلمه الإمام عليه السلام بالمكان والبيت لئلا يسأل أحداً من الناس.
وأغذّ الغلام المسير يواصل ليله ونهاره، حتى شارف المدينة، وجاء إلى بيت الإمام عليه السلام وسلّم الكتاب إلى فاطمة المعصومة عليها السلام. وما إن وقع بصرها على خطّ الإمام حتى تذكرت أخاها، وما كان له معها من شأن، وكأنّه لم يمض عام واحد فحسب، وإنّما عشرات الأعوام. ثم إنّها تهيأت للمسير.
وقد ذكرت المصادر أنّها لما أزمعت الرّحيل إلى لقاء أخيها في طوس، أعدّت للسفر عدّته، وتهيأ ركب قوامه اثنان وعشرون شخصاً ضمّ بعض أخوتها، وبعض أبنائها وغلمانهم، وساروا يقطعون البيد والقفار واتخذوا من الطريق المؤدي إلى قم مساراً لهم إلى طوس. وفي الوقت نفسه تهيأ ركب آخر من بقيّة إخوتها ومن انضمّ إليهم، وخرجوا قاصدين إلى طوس حيث الإمام الرضا عليه السلام، فقد ذكروا أنّ الإمام الرضا عليه السلام قد استأذن المأمون في قدومهم، وكان قوام هذا الركب ثلاثة آلاف شخص، فقد التحق بهم عدد كبير من بني أعمامهم وأولادهم وأقاربهم ومواليهم، كما التحق بهم في مسيرهم أعداد كبيرة من الشيعة رجالاً ونساءً حتى بلغوا قريباً من خمسة عشر ألف شخص.
وقد اختاروا المسير عن طريق شيراز وكان في طليعة هذا الركب أحمد ومحمد والحسين أبناء الإمام الكاظم عليه السلام. وأمّا ركب السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام فقد اتخذ طريق قم، ولكن ما إن وصل إلى ساوة - وهي بلدة لا تبعد كثيراً عن قم - حتى حوصر الرّكب، فقتل وشرّد كل من فيه، وجرحوا هارون أخا الإمام الرضا عليه السلام، ثم هجموا عليه وهو يتناول الطعام فقتلوه.
وكان ذلك كلّه بمرأى من السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام، فقد شاهدت مقتل إخوتها وأبنائهم، ورأت تشرّد من بقي منهم، فماذا سيكون حالها آنذاك؟. وعلى أي حال فقد كانت الأيام الأخيرة من حياة السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام مريرة مؤلمة عانت فيها آلاماً في الروح وآلاماً في الجسد حتى آذنت شمسها بالمغيب.
ورحلت السيدة المعصومة عليها السلام من ساوة وهي مثقلة بالهموم والآلام والأحزان ميمّمة نحو قم، وكانت على موعد مع هذه البلدة الطيبة، والتي ستزداد مكانتها رفعة وشأناً وشرفاً يوم تطأ أرضها قدما السيدة فاطمة عليها السلام، ولنا حديث حول قم وتاريخها سيأتي في موضعه. لقد علمت السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام بأنّها المعنية في ما ورد عن جدّها الإمام الصادق عليه السلام يوم قال:" وإنّ لنا حرماً وهو بلدة قم وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمّى فاطمة فمن زارها وجبت له الجنة ".
وذكر الرواة أن الإمام عليه السلام قد حدّث بذلك قبل ولادة الإمام الكاظم عليه السلام. وعلمت السيدة فاطمة عليها السلام بقرب رحيلها عن الدنيا، وأنّها لن تلبث إلا أيّاماً قليلة، كما علمت أن مواصلة المسير إلى طوس أصبح عسيراً بعد أن فقدت إخوتها وأبناءهم قتلاً وتشريداً، ولم تكن أرض ساوة ولا أهلها آنذاك أهلاً لاستضافتها، ومن أجل ذلك كان لابدّ أن رحلت عن ساوة إلى قم، فأمرت خادمها أن يحملها إليها.
ولما بلغ أهل قم نبأ قرب وصولها خرج الأشراف لاستقبالها، ولعلّهم كانوا يعلمون بما حدّث به الإمام الصادق عليه السلام، وأنّ هذه المرأة الجليلة هي التي وعدوا بها، وكان في طليعة مستقبليها موسى بن خزرج بن سعد الأشعري، فلمّا وصل إليها أخذ بزمام ناقتها، وجرّها إلى منزله وكانت في داره سبعة عشر يوماً. ولا زال موضع المنزل ماثلاً إلى اليوم، حيث أصبح مدرسة علميّة ومسكناً لطلاب العلوم الدينية في قم، وقد اتخذت من بيته موضعاً جعلته محراباً لها تصلّي فيه.
يقول الشيخ المحدّث القمّي:" والمحراب الذي كانت فاطمة رضي الله عنها تصلّي فيه موجود إلى الآن في دار موسى ويزوره الناس ". وما يزال هذا المحراب المبارك موجوداً إلى يومنا هذا ويقع في محلّة ميدان مير ومعروف ب "ستية" والتي بمعنى السيّدة. لقد كانت السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام تأمل في أن تحظى بلقاء شقيقها الرضا عليه السلام، لتطفئ لواعج الشوق والحنين، وتروي ظمأ الفؤاد، وكانت تغذّ السير نحو طوس لا تلوي على شيء.. ولكنّها الأقدار الإلهية ومشيئة الخالق الحكيم، وليس إلا التسليم والرضا بما شاء وأراد.
* فاطمة المعصومة قبس من أشعة الزهراء، محمد علي المعلم، دار الهادي، ط1، بيروت/لبنان، 1421هـ/2000م، ص132-150.