قال الله تعالى : « فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك » (1).
من الأمور الفطرية عند الانسان ، والتي يمكن أن تكون أساساً ثابتاً لتربية الطفل : غريزة التفوق ، وحب الكمال . إن الرغبة في الترقي والتعالي تعتبر من فروع حب الذات المودع في فطرة كل انسان . وعلى المربي القدير أن يستغل هذه الثروة النفسية ، ويقيم شطراً من الأساليب التربوية الصحيحة على هذا الأساس ، فيسوق الطفل إلى طريق الترقي والتعالي.
لقد ورد بهذا الصدد حديث عن الامام الحسن ( ع ) : ... « أنه دعا بنيه وبني أخيه ، فقال : إنكم صغار قوم ، ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين ، فتعلموا العلم ... فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته » (2).
وفي هذا الحديث نجد أن الامام الحسن عليه السلام ، لأجل أن يحث أبناءه وأبناء أخيه على اكتساب العلوم ويشجعهم على ذلك يستفيد من حب الذات والترقي عندهم ـ وهو أمر فطري ـ من دون أن يتوسل إلى الزجر والأساليب المخيفة ، ويفهمهم أن تحصيل العلم في اليوم ، سبيل الوصول إلى العزة والعظمة في الغد.
إن الأسلوب المستعمل في هذا الحديث يعد من أعظم الأساليب في مجال التعليم والتربية في العصر الحديث ، فكل أسرة تستطيع أن تشجع أبناءها على تحصيل العلوم بهذا الأسلوب ، وتدفعهم منذ البداية إلى التعالي والترقي فان الأطفال يسعون وراء العلم بدافع ذاتي فيما بعد ، ولا يحتاجون إلى التهديد والتعقيب.
العدالة في الأسرة :
يحكم الآباء في الدولة الصغيرة للأسرة أفراد أسرهم بأساليب مختلفة ، فبعض الآباء العقلاء والمؤمنين يطيعون الأوامر الإلهية والأسس العقلية يديرون شؤون الأسرة حسب العدالة والانصاف والاحترام للحق والفضيلة فأعضاء هذه الأسرة حسب العدالة والانصاف والاحترام للحق والفضيلة فأعضاء هذه الأسرة يعيشون في ظل الأمن والهدوء الفكري ، وكل منهم يؤدي واجباته بكل سرور وارتياح أملاً في الحصول على السعادة في غد ، وتشع أشعة الحنان والحب في جميع زوايا ذلك البيت وتلك الأسرة.
وعلى العكس من ذلك : فهناك من الآباء الجاهلين والمنحرفين من لا يتقيد بالواجبات الدينية ولا يطيع الأنظمة العلمية والعقلية ، ولأجل أن يكون الحاكم المطلق في جو الأسرة وتنفذ أوامره بلا استفسار أو إنتقاد ، يتوسل بالاستبداد والتعنت ويثبت قدرته ويفرض إرادته بالفحش والعربدة والكلمات الركيكة ، ويعامل زوجته وأطفاله معاملة أشد من معاملة الحيوانات فيذيقهم الأمرين من السوط والعصا والتعذيب والضرب والتجويع ، محولاً جو الأسرة إلى سجن رهيب لا يطاق !.
... حين ينعكس صوته الغليظ في محيط البيت يفر الأطفال الأبرياء بوجوه شاحبة إلى هنا وهناك ، وترتعد فرائصهم كنعاج هجم عليها الذئب ثم يلجأون إلى الفراش بأرواح ملؤها العقد والتأزمات ، وحين يستيقظون في الصباح ويتذكرون أباهم المجنون وتصرفاته البذيئة يسيطر عليهم الجزع والانكماش حتى كأنهم لا حراك بهم.
خوف الطفل من الذنب :
في الدولة الصغيرة للأسرة يكون خوف أفراد الأسرة على قسمين : فبعضهم يخاف من الذنب ، والبعض الآخر يخاف من الأب . عندما يكون الخوف من الذنب موجوداً فإن المخاوف الباطلة الواهية تنعدم ، وهنا يكون المهد الصحيح للتربية . وتتفتح أزهار الشعور بالمسؤولية في نفوس الأطفال واحدة بعد الأخرى ، ويتعود الصغار على الاستقامة منذ البداية . إن أعضاء هذه الأسرة يطمئنون إلى أنهم إذا لم يتجاوزوا على حقوق الآخرين ولم يتلوثوا بالذنب والانحراف ، فال ينالهم شيء بل يكونون مقربين عند الأبوين تماماً.
في مثل هذه الظروف يكون الأب في محيط الأسرة حائزاً على الشخصية والعطف معاً ، والأطفال يخافون من مؤاخذته الصحيحة والمنصفة فلا يمارسون الذنوب ولا ينحرفون.
« ويجب على الذي يقوم بإجراء العقوبة أن يعتقد ببعض القواعد ويستمع إلى نداء الوجدان ، ولا يحكم بدافع التعصب . وعليه ـ في نفس الوقت ـ أن يكون حميداً في سلوكه وعطوفاً ، لا بأن يظهر ضعفه وحقارته ، بل يكون ذا شفقة عامة وإنسانية تظهر في حدود القوانين المحدودة والقابلة للاحترام الاجتماعي والدولي » (3).
« إن المربي سيتظاهر بأنه سوف لا يعاقب ، بل أنه يجري قوانين العدالة كموظف مختص مجبر على ذلك ، وسيفهم الطفل هذه النكتة بصورة حسنة . ولما كان التوبيخ ذا جانب عاطفي تماماً هنا فيجب أن لا يخرج عن حدود الانسانية ، وبهذا تكون عقوبة كهذه غير انحيازية » (4).
خوف الطفل من الأب :
عندما يكون الخوف من الأب ، الأب السيء الخلق والقاسي ، الأب الذي يتحجج ويتعنت ، الأب الذي يفحش في القول ويضرب أبناءه بلا سبب فيجازي أبسط الزلات بأكبر العقوبات ، الأب الذي يثأر لأتعابه الخارجية فينتقم من أطفاله الأبرياء ، والذي يحل عقدة الفشل التجاري أو الإداري أو الاجتماعي عنده بإيذائهم ... ففي الأسرة التي يحكمها مثل هذا الأب لا تحترم الأمانة والاستقامة ، ولا تعرف الفضيلة والأخلاق ، إنما المهم في نظر الأطفال إرضاء أبيهم المستبد ، واتقاء شره !.
إن العصر الحديث يخطئ من الناحية العلمية والتربوية ، طريقة ضرب الأطفال وإيذائهم بغية التأديب ، ويكاد يمنع الضرب في جميع الدول الحية فيحذر الآباء والأمهات في البيت ، والمعلمون في المدرسة ، عن ضرب الأطفال بصورة أكيدة.
قد يتصور البعض أن هذه النظرية مبتكرة في عصرنا الحاضر ، وأن الانتباه إلى أهمية هذا الموضوع حصل في الحديث فقط . بينما نرى من الضروري أن نرفع هذا الوهم عن أذهان أولئك ونقول بصراحة : إن الاسلام سبقهم إلى ذلك ... فعلاوة على الروايات في المنع من ضرب الأطفال ، أفتى الفقهاء المسلمون في القرون الماضية بحرمة ذلك في رسائلهم العملية التي تعد المناهج اليومية لعمل المسلمين.
« قال بعضهم : شكوت إلى أبي الحسن ( ع ) إبناً لي ، فقال : لا تضربه واهجره ... ولا تطل » (5).
ففي هذا الحديث نجد أن الإمام يمنع من ضرب الطفل بصراحة ، مستفيداً من العقوبة العاطفية بدلاً من العقوبة البدنية . فالأب هو الملجأ الوحيد للطفل ومعقد آماله ، وإن هجره للولد أكبر عوقبة روحية ومعنوية إنه (ع) يطلب من الوالد أن يهجر الولد ولكنه سرعان ما يوصيه بعدم طول مدة الهجر ، ذلك أنه إذا كان لهجر الوالد أثر عميق في روح الطفل فإن طول مدته يبعث على تحطيم روحيته وإذا كان أثر هذا الهجر ضعيفاً فإن شخصيته الوالد ستصغر في نظر الطفل لطول مدة الهجر وسوف لا يكون لتألم الوالد أثر أصلا.
« إن للعقوبات التي ترجع فيها الوسائل العاطفية والأخلاقية على الوسائل المادية تأثيراً كبيراً ، ففي مثل هذه العقوبات بدلاً من أن يحرم الطفل من الماديات يجب السعي للتأثير في قلبه ونفسه ووجدانه وعزته وغروره ، فإن لم ترتبط المحروميات المادية مع مشاعره وعواطفه فانها تفقد طابع العقوبة » (6).
وفي هذا الصدد يقول الامام علي ( ع ) : « إن العاقل يتعظ بالأدب والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب » (7).
بقاء الأسرة في ظل العدل :
عندما يحكم الآباء والأمهات في الدولة الصغيرة للأسرة بقوة الجق والفضيلة ، وعلى أساس العقل والعدالة فإن تلك الأسرة تبقى قوية ونشيطة على مدى الأجيال . ولا تستطيع القرون المتمادية أن تحطم تلك العائلة وتهدم بناءها ، ذلك أن الفضائل الخلقية والعدل والانصاف تضمن دوام تلك الأسرة.
وعلى العكس من ذلك فان الآباء الذين يديرون الأسرة بالضغط والاضطهاد والتهديد ، وبدلاً من قيامهم بالتربية الصحيحة والعقلائية يعذبونهم ، فانهم يبذرون بذور العداوة في قلوبهم ، ويسقون أشجار البغض والحقد بأعمالهم الفاسدة ، فيهيئون بذلك وسائل الشقاء لأنفسهم ولأطفالهم فعندما يتحطم سد التهديد في يوم ما بموت الأب أو سفره أو عجزه ، تنفجر العقدة النفسية للأطفال وتؤدي إلى سيل من الانتقام والثأر الذي يمكن أن يتضمن نتائج وخيمة.
« هناك أباء وأمهات مستبدون لا يتمالكون على أنفسهم من الاساءة والضرب . وفي هذه الصورة لا تكون بعض
العقوبات البدنية مضرة بمقدار ضرر بعض التشديدات بالنسبة إلى القلب . إن الحبس في غرفة ، أو النظر إلى الجدار من دون أن يجرأ على القيام بحركة صغيرة تحطم القابلية على التحمل عند الطفل ».
« هناك بعض الأولياء يصبون طعام الطفل في إناء يشبه إناء طعام الحيوانات : وحتى في بعض الأحيان يقوم هذا الأب أو الأم غير العاديين بتقديم الطعام إلى الطفل في وعاء القاذورات ، أو يبصق الأب في وجه الطفل او يعريه في الشارع وأمثال ذلك مشاهدة بكثرة !».
« هؤلاء الأطفال تتحطم أعصابهم ، وتصبح أفعالهم خالية من التروي والتفكير ، وغالباً يؤدي بهم النفور نحو الانحراف وظهور ذلك في مظهر الجريمة ، ذلك أن هؤلاء الأطفال يريدون أن ينتقموا ممن يعذبهم بواسطة نوع من الانتحار الخلقي ، ولذلك فانهم لا يهتمون كثيراً بالترحم الذي يمكن أن يصيبهم ، كما أنهم لا يتأثرون بكل عقوبة » (8).
فمن الضروري أن تكون إدارة الأسرة قائمة على العقل والدراية والانصاف والعدالة ، وفي هذا يقول الرسول الأعظم ( ص ) : « ما من بيت ليس فيه شيء من الحكمة ، إلا كان خراباً » (9).
الأسرة والحرية :
تخضع نفسيات الأفراد في الأسرة إلى وضع حكومة الآباء . فالأب الذي يتحدث إلى أبنائه بلسان التهديد والعقاب فقط وتكون إطاعته له قائمة على أساس الخوف منه ، ينعدم حب التعالي والترقي من نفوس الأطفال ، ولا تظهر استعداداتهم الخفية ولا يفكرون في تحصيل الكفاءات لأنفسهم . وبصورة أساسية فإن الأطفال في أمثال هذه الأسر لا يدركون أنفسهم ، ولا يلتفتون إلى وجودهم بين ظهراني المجتمع ، لأنهم لم يسمعوا كلاماً من رب الأسرة حول إظهار شخصياتهم ، إنه كان يتحدث معهم بلغة السوط والعصا فقط !.
أما في الأسر التي تقوم على أساس التعالي النفسي وحب الكمال ، الاسر التي تهدف التربية فيها إلى إيجاد الكفاءة والفضيلة والصلاحية في نفوس الأفراد ، تنعدم لغة التهديد والعقوبة ، بل يستند المربي حينئذ إلى شخصية الأطفال ويستفيد من غريزة جبهم للكمال في تشجيعهم على العمل المثمر الحر.
إن الحديث الذي بدأنا به المحاضرة يستند إلى هذا الأساس . فالامام الحسن عليه السلام لم يتحدث عن نفسه مع أطفاله ولم يهددهم بقوته ، بل أشعرهم بأنهم صغار اليوم ، وربما كانوا كبار الغد ، وإن العظمة وذيوع الصيت في المجتمع يستلزم الكفاءة ، فأخذ يحثهم على التعلم وتحصيل المعرفة.
إن التربية في ظل النظام الاسلامي تقوم على العدل والحرية ، وتنمية حب التعالي والتكامل في نفوس الأطفال.
يقول الامام علي ( ع ) لولده الحسن : « ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً » (10). بهذه الجملة القصيرة يزرع الأب العظيم أعظم ثروة للشخصية في نفس ولده ، ويعوده على الحرية الفكرية.
وبالنسبة إلى تعلم الأطفال قال ( ع ) : « من لم يتعلم في الصغر ، لم يتقدم في الكبر » (11).
إن المربي القدير هو الذي يستفيد من غريزة حب الكمال والتعالي عند الطفل ويقيم قسماً كبيراً من أساليبه التربوية على هذا الأساس.
*من كتاب الطفل بين التربية والوراثة - محمّد تقي فلسفي
(1) سورة آل عمران |157.
(2) بحار الأنوار ج 1|110.
(3) من كتاب باللغة الفارسية : جه ميدانيم ؟ تربيت أطفال دشوار ص 93.
(4) المصدر السابق ص 95.
(5) بحار الأنوار للمجلسي ج 23|114 . ومعنى الهجر : إظهار عدم الرضا بأعماله وعدم الاعتناء إليه.
(6) جه ميدانيم ؟ تربيت أطفال دشوار ص 94.
(7) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 108 طبعة النجف الأشرف.
(8) جه ميدانيم ؟ تربيت أطفال دشوار ص 30.
(9) تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج 1|382
(10) . نهج البلاغة ص 450.
(11) غرر الحكم ودرر الكلم ص 697.