يجتاز المرء مرحلة الطفولة المفعمة بالصفاء حيث ينعم الطفل برعاية الأبوين ودفء الأسرة، وشيئاً فشيئاً ينمو الفتى والفتاة ليدخلا عهداً جديداً هو عهد الشباب.. إنها مرحلة حساسة تتطلب النهوض بمسؤوليات الحياة وأعبائها.. وخلال هذه الفترة وفي مراحلها الأولى يرنو الفتى كما تتطلع الفتاة إلى شريك الحياة ورفيق الدرب.. إلى إنسان يخفّف من العبء..
إنسان يفرح معه ويشاركه لوعته ويبثه همومه، إنسان يدركه ويفهمه ويقوم بدور المنقذ إذا ما هاجمته أمواج الحوادث.. ويكون له عوناً في الشدائد يبدّد وحشته ويشيع في روحه الأمل في الحياة والمستقبل. من هنا يتوجب على المرء وعي الأهداف الحقيقية من وراء مشروع الزواج، مع التأكيد على أن الغايات التي توفر للأسرة القدر الأمثل من الاستقرار يجب أن تنضوي في إطار البحث عن حالة السلام النفسي لأن مرحلة البلوغ مرحلة حساسة تشهد تغيرات جوهرية تشكل بمجموعها نداء الزواج..
لذلك فالاستجابة المبكرة لنداء الطبيعة الإنسانية يوفر على المرء المعاناة التي تنشأ عن الكبت الذي يؤدي في الغالب إلى بروز اضطرابات نفسية حادة لن تهدأ إلاّ بالعثور على شريك الحياة وعندها تنقشع الغيوم. ومن هنا فإن هدفية الزواج قد تكمن أحياناً في تحقيق حالة الاستقرار النفسي والأخلاقي في ظلال حياة مستقرّة توفرها أجواء الأسرة الدافئة. وتلك تجارب الحياة تثبت للجميع كيف يأوي المرء إلى زوجة تشعره بالسكينة والطمأنينة والسلام. وهذا مولانا علي بن أبي طالب عليه السلام الذي خاض تجربة الحياة وتحمّل المسؤوليات الجسام يقول: «ولقد كنت أنظر إليها (فاطمة الزهراء) فتنقشع عني الهموم».
وهناك هاجس التكامل الذي يسعى إليه الإنسان ذكراً كان أو أنثى ،هذا الهاجس الذي يشتدّ ويبلغ ذروته في مرحلة الشباب وعندها تأتي تجربة الزواج لتفتح آفاق التكامل أمام الشاب والفتاة حيث يستحيلان إلى دليلين أو مرآتين يتبادلان التجارب والآراء ويكتشفان عيوبهما فيسعيان إلى التكامل والنمو الأخلاقي والفكري.
ومن أهداف الزواج الكبرى صيانة المرء نفسه من السقوط في هاوية الانحراف والخروج على جادة الدين الحنيفومن ، فيأتي الزواج ليجنّب الإنسان السقوط في المنزلقات الخطرة وقد ورد في الحديث النبوي الشريف: «من تزوّج فقد أحرز نصف دينه». والزواج لا يكفل للمرء عدم السقوط فحسب بل يوفر له جوّاً من السلام يمكنه من التوجه إلى السماء بطمأنينة وثقة..لأن إشباع الغريزة والاستجابة لنداء الجنس بشكل مشروع يعدّ ضرورة في الحياة الدينية.
ومن غايات الزواج التي تسكن أعماق البشر الميل للاستمرار وبوضوح أكثر هاجس الخلود حيث يوفّر الزواج هذا الشعور من خلال الإنجاب . فميلاد الطفل وخاصّة الأول يفجرّ في الذات الإنسانية أن هذا الكائن هو جزء لا يتجزأ منهما وأنه استمرار لحياتهما.. ومن هنا نجد الدين الإسلامي الحنيف يؤسس لثقافة الزواج بشكل يجعل منه مشروعاً حياتياً ومصيرياً ينبغي دراسته وفق أسس أخلاقية بحتة بعيداً عن كل الاعتبارات الأخرى.. يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم : «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض». فالمعيار الأخلاقي هو الأساس في تجربة الزواج..
أمّا الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية فلا أهميّة لها، بل قد يكون لها دور سلبي في بعض الأحيان. غير أننا ومع بالغ الأسف نشهد اغتصاب التقاليد والأعراف الاجتماعية لدور الدين في التأسيس للحياة الزوجية، وفيما نرى أدبيات الإسلام تدفع بالمجتمع المسلم إلى تبسيط عملية الزواج وتحويلها إلى ظاهرة إنسانية تنطوي على غائية في إطار الأهداف التي مرّ ذكرها، نرى التقاليد والاعتبارات الفارغة تجعل منها مشكلة معقّدة في طريق الشباب الذي قد يبقى يعاني من الحرمان العاطفي سنوات طويلة.
إلا أن هذا لا يمنع بطبيعة الحال من وجود عيّنات تبشّر بالخير في هذا المضمار عندما تتصرّف بعض الأُسر وفق معايير إسلامية حيث الأصالة للدين والأخلاق. من هنا يجب اتخاذ تجارب الرسول الزوجية أساساً لثقافة جديدة.. ثقافة تحدّد موقفها من الزواج والحياة الزوجية.
فالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ومن خلال سيرته الخالدة كان يرسم المثل الإنساني الأعلى في زواجه وموقفه إزاء خطبة. فزواجه من خديجة عليها السلام لم يكن وفق التقاليد، كما أنه لم يستنكر موقف المرأة التي وهبت نفسها له.. ولم ينتهر المرأة التي طلبت منه أن يزوجها من يشاء، كما وأنه زوّج ابنته الكريمة شاباً فقيراً معدماً وهو علي لأنه يتحرك وفق ثقافة الإسلام التي تمنح الأصالة للأخلاق قبل كل شيء . وقد تمّ هذا بموافقة السيدة الزهراء التي كانت تترسم خطى الإسلام.
المصدر : من كتاب: " نحو حياة دافئة" للشيخ ابراهيم الاميني