قامت في جبل عامل والمناطق المجاورة له من سهل البقاع مراكز علمية يمكن القول إنّها كانت مشروعاً سياسياً، أنجزته تلك المراكز العلمية، متمثّلة بالفقهاء، ثمّ حملوه مهاجرين، إلى الجوار العربيّ القريب والبعيد وإلى أقطار العالم الإسلاميّ البعيدة. وفي أعماق أسباب الهجرة تكمن الخصوصية الفكرية والسياسية معاً. ويمكننا أن نسمّي هذه الخصوصية بالمسألة الأولى.
أمّا المسألة الثانية: فهي الأرضيّة التي تفاعلت مع الأفكار أو المشروع الذي حمله المهاجرون معهم بكامل عناصره الثقافية والاجتماعية أيضاً.
أضف إلى ذلك امتياز سكّانه بالذكاء واعتدال القرائح، ولعلّ هذا ناشئ عن الأمر الأوّل لتأثير الإقليم في الطباع واعتدال الهواء في اعتدالها. ويشهد بذلك أنّه ما حلّ العامليون في قطر من الأقطار إلا و تعلّموا لغة أهله بأقرب وقت، وتكّلموا بلهجتهم بحيث لا يمتازون عنهم، ولا يظنّهم السامع غرباء، بل يخالهم من أهل تلك البلاد.
وكَثُر من نبغ فيه من العلماء، فبعد بدايات الفتح الإسلامي بمدّة نبغ في العامليين الشعراء و العلماء والقادة والأمراء. فلقد نبغ فيه من القرن السادس الهجري أو قبله إلى اليوم علماء كبار في كلّ فنّ وعلم، هذا فضلاً عن الشعراء والأدباء والكتّاب...، وقد كثرت مؤلّفاتهم في كلّ فنّ، حتى أن أفران عكّا بقيت تشتعل منها ستة أيام في حادثة الجزار المشؤومة، ولم ينجُ منها إلا ما أخذه أهل فلسطين من نفائسها، وما حمله الهاربون إلى بلاد غير بلادهم. ولم ينقطع منه العلم من ذلك الحين إلى وقتنا هذا.
وحسبك في فضل جبل عامل أن يجتمع في جنازة سبعين مجتهداً، (في عصر الشهيد الثاني) والعلماء هم ورثة الأنبياء. وحسبك في فضل جبل عامل أن يضع صاحب أمل الآمل كتابه في علماء جبل عامل، ويعترف بعدم الاستقصاء، وأن يقصده الطلّاب والعلماء من العراق وإيران وأن يبلغ عدد طلاب مدرسة المحقّق الميسي أربعمئة طالب.
* كتاب منار الهدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.