اختلف المفسرون في شخصية ذي القرنين ، وكما اثارت اهتمام الفلاسفة والباحثين منذ القدم ، وبذلوا مساعي كثيرة للتعرف على هذه الشخصية.
ذي القرنين في القرآن : فلما اخبر رسول الله (ص) بخبر موسى (ع) وفتاه والخضر ، قالوا له : يا رسول الله اخبرنا عن طائف طاف الأرض بين المشرق والمغرب من هو؟ وما قصته؟
فانزل الله تعالى : "ويسالونك عن ذي القرنين ". فيكون الجواب على لسان النبي (ص) : ( قل سأتلو عليكم منه ذكرا ) والرسول هنا يتحدث لهم مباشرة عن ذي القرنين.
ويظهر من بداية الآية ان قصة « ذو القرنين » كانت متداولة ومعروفة بين الناس ، ولكنها كانت محاطة بالغموض والابهام ، لهذا السبب طالبوا رسول الله (ص) ليوضحها لهم.
يقول تعالى:" انا مكنا له في الأرض "، اي منحناه القوة والقدرة والحكم على وجه الارض ، " وآتيناه من كل شيء سببا "، اي اعطاه الله ومنحه كل وسائل القدرة والتمكن ، وعلمه اسباب الوصول اليها مثل : العقل : والعلم الكافي ، والادارة السليمة ، والقوة والقدرة ، والجيوش البشرية ، بالاضافة الى الامكانيات المادية والمعنوية الكفيلة بتحقيق الاهداف المنشودة.
ثم يشير القرآن بعد ذلك الى استفادة ذي القرنين من هذه الأسباب والسبل حيث يقول : « فأتبع سببا » اي استفادة من العقل والعلم والقوة التي منحها الله اياه في خدمة الانسان وهدايته واخذ يجول في الارض شرقها وغربها ، فيقول تعالى : "حتى اذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة" . حمئة : تعني في الأصل الطين الأسود ذا الرائحة الكريهة ، او الماء الآسن الموجود في المستنقعات، وهذا الوصف يبين لنا بان الأرض التي بلغها ذو القرنين ، كانت مليئة بالمستنقعات ، بشكل كان ذو القرنين يشعر معه بان الشمس كانت تغرب في هذه المستنقعات ، تماما كما يشعر بذلك ما بحر البحر ، وسكان السواحل الذين يشعرون بان الشمس غابت في البحر او خرجت منه.
"ووجد عندها قوما :" هؤلاء القوم هم الذين خاطب الله ذا القرنين في شأنهم وقال : " قلنا يا ذا القرنين إما ان تعذب وإما ان تتخذ فيهم حسنا" ، اي اما ان تعذب هؤلاء القوم ، واما ان تتخذ فيهم امرا ذا حسن ، حسب الظاهر ان هؤلاء القوم الذين وجدهم ذي القرنين كانوا منحرفين ولا يعبدون الله وظَلَمة.
بعد ذلك تحكي الآية جواب ذي القرنين الذي قال : "قال أمّا من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد الى ربه فيعذبه عذابا نكرا " اي ان الظالمين سينالون العذاب الدنيوي والاخروي معا.
"وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى " "وسنقول له من امرنا يسرا " . اي اننا سنتعامل مع المؤمنين بالقول الحسن ونحسن له ونكلفه بما فيه اليسر، اما الظالمين منهم سوف نعذبهم ونشدد عليهم في الضرائب والاعمال الشاقة.
وعندما انتهى ـ ذو القرنين ـ من سفره الى المغرب ، توجه الى المشرق حيث يقول القرآن في ذلك" : ثم اتبع سببا" ، اي استخدم الوسائل والامكانات التي كانت بحوزته. " حتى اذا بلغ مطلع الشمس .رأى هنا انها تطلع على قوم آخرين ، ما هي صفاتهم؟ " وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا. اي كانت صفاتهم عراة ، لا يملكون سوى القليل من الملابس التي لا تكفي لتغطية ابدانهم من الشمس ، ولم تكن عندهم مساكن تحميهم من الشمس ، ويحتمل ان يكون هؤلاء القوم في ارض صحراوية لا يوجد فيها جبال ولا اشجار ولا ملاجيء يمكنهم حماية انفسهم. " كذلك وقد احطنا بما لديه خبرا ".
هكذا كانت اعمال ـ ذو القرنين ـ ونحن ، اي الله يعلم جيدا بامكاناته وقدراته وكل جزئياته ، ولا يخفى عليه ما قاساه ذو القرنين في هذا المسير وما تحمله من مصائب وشدائد. بناء السد : بعد ان انتهى ـ ذي القرنين ـ من سفره الى المغرب والمشرق ، ينتقل الى المرحلة الثانية والسفرة الثالثة وهي بناء السد والتقاءه بقوم آخرين. حيث يقول تعالى : " ثم اتبع سببا "- اي استفاد من الوسائل المهمة التي كانت تحت تصرفه لبناء السد ..
فقال تعالى : " حتى اذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا. تشير الآية المباركة الى انه وصل الى منطقة جبلية ، وهناك وجد اناسا ـ غير المجموعتين اللتين عثر عليهما في الشرق والغرب ـ كانوا على مستوى دان من المدينة ، وكانوا لا يفهمون محتوى الكلام ومتخلفين فكريا عندما وصل ذو القرنين اليهم ورأوه ، اغتنموا مجيئه واستنجدوا به ، لأنهم كانوا في عذاب شديد من قبل اعدائهم « يأجوج ومأجوج » لذا فقد طلبوا منه العون قائلين : " قالوا يا ذا القرنين ان يأجوج ومأجوج مفسدون في الارض فهل نجعل لك خرجا على ان تجعل بيننا وبينهم سدا " .
تم التفاهم بين هؤلاء القوم وذي القرنين بالعلامات والاشارات او عن طريق المترجمين ، او باسلوب آخر ، على كل حال اتفقوا معه على بناء السد ، وكانت هذه المجموعة من الناس على وضع جيد من حيث الامكانات والثروة المادية ، ولكنهم ضعفاء من حيث الفكر والصناعة والتخطيط ، لذا فقد قبلوا بتكاليف بناء هذا السد المهم بشرط ان يتكفل ذو القرنين ببنائه.
اما ذو القرنين فقد اجابهم : و " قال ما مكّنّي فيه ربي خير " واني لا احتاج الى مساعدتكم المالية ، وانما : فاعينوني بقوة اجعل بينكم وبينهم ردما " . فان ذو القرنين طلب منهم قوة بشرية من اجل ان يساعدوه على بناء السد ، وكلمة « ردم » هنا تقال للسد القوي ، ويطلق ايضا على ـ ترقيع الملابس ـ. ثم امر ذو القرنين وطلب منهم وقال" : آتوني زبر الحديد" وهي تعني القطع الكبير من الحديد. وعندما جاءوه بقطع من الحديد أعطى امرا بوضع بعضها فوق بعض الآخر حتى غطى بين الجبلين بشكل كامل : ( حتى اذا ساوى بين الصدفين. ومعنى " الصدف " هنا حافة الجبل ، حيث كان بين حافتي الجبل شقا كان يدخل منها يأجوج ومأجوج ويؤذون القوم ، وقد صمم ذو القرنين ملأ هذا الشق. وبعد ذلك امرهم ذو القرنين وطلب منهم ان ياتون الحطب والاخشاب ويضعونها على جانبي السد ، واشعل النار فيه حتى احمر الحديد من شدة النار و "قال انفخوا حتى اذا جعله نارا ". لقد كان هدف ذو القرنين من ذلك هو ربط قطع الحديد بعضها مع البعض ليصنع منه قطعة واحدة ، والتحمت اجزاء الحديد بعضها ببعض. وبعدما انتهى من هذه المرحلة ، طلب منهم فقال : اجلبوا لي النحاس المذاب حتى اضعه فوق هذا السد : "قال آتوني افرغ عليه قطرا" .
وبهذه الطريقة فقد قام بتغطية هذا السد الحديدي بقطعة من النحاس حتى لا ينفذ فيه الهواء ويحفظ من التآكل. ان علم الحديث اليوم اثبت انه عند اضافة مقدار من النحاس الى الحديد فان ذلك سيزيد من مقدار مقاومته. واخيرا تم بناء السد واصبح محكما وقويا بحيث : "فما اسطاعوا ان يظهروه وما استطاعوا له نقبا ".
لقد كان عمل ذي القرنين عظيما ومهما ، وكان يمكن له ان يتباهى ويفتخر ويمن به على القوم ، الا انه قال بأدب كامل وتواضع : "قال هذا رحمة من ربي " ، لان اخلاقه كانت اخلاقا الهية. أراد ذو القرنين ان يعِظَهم فقال : انني لا املك شيئا من عندي كي افتخر به ، اذا كنت املك العلم والمعرفة ، وقابلت الكلام والحديث المؤثر ، كل هذا من فضل الله ومن قبل الخالق جل وعلا.
واذا كانت مِثل هذه الوسائل والأفكار في اختياري فان ذلك من بركة الله ورحمة الخالق الواسعة. ثم استطرد قائلا متواضعا لله تعالى : لا تظنوا ان هذا السد سيكون ابديا خالدا لا يتزعزع ، "فاذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا " . لقد اشار ذو القرنين في النهاية من كلامه هذا الى فناء الدنيا وتحطيم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث ويوم تقوم القيامة. واعتبر بعض المفسرين ـ الوعد الالهي ـ اشارة الى التقدم العلمي للبشر والذي بواسطته لا يبقى معنى لسد غير قابل للاختراق والعبور ، فالطائرات والصواريخ والقنابل الذرية وما شابهها تستطيع ان تعبر جميع هذه الموانع ....
من هو ذو القرنين : اختلفوا في اسمه ، ان اسمه عياش ، في بعض الروايات اسكندر ، وفي بعضها مرزيا بن مرزبة اليوناني من ولد يونن بن يافث بن نوح ، وفي بعضها انه الاسكندر المقدوني الذي سيطر على دول الغرب والروم ومصر وبنى مدينة الاسكندرية ، ثم سيطر بعد ذلك على الشام وبيت المقدس. وقال البعض ان ذو القرنين ـ كان احد ملوك اليمن ، واكد البعض انه « كورش الكبير » الملك الاخميني ... الخ.
أين يقع سد ذي القرنين؟ ايضا اختلفت عليه الأجوبة : يرى البعض في سد ذي القرنين انه سد مأرب في اليمن ، ولكن هذا السد برغم وقوعه في مضيق جبلي الا انه انشئ لمنع السيل ولخَزن المياه ، وان النحاس والحديد لم يدخلا في بنائه. ومن قائل يقول بانه جدار الصين الذي لا يزال موجودا ويبلغ طوله مئات الكيلومترات ، وهذا ايضا مردود ، لان الجدار لم يدخل في بنائه النحاس والحديد ، ولا يقع في مضيق جبلي ...
ولكن بالاستشهاد الى شهادة العلماء واهل الخبرة فان السد يقع في ارض القوقاز بين بحر الخزر والبحر الاسود ، حيث توجد سلسلة جبلية كالجدار تفصل بين الشمال عن الجنوب ، والمضيق الوحيد الذي يقع بين هذه الجبال الصخرية هو مضيق « داريال » المعروف ، ويشاهد فيه جدار حديدي اثري حتى الآن ، ولهذه المرجحات يعتقد الكثير بان سد « ذو القرنين » يقع في هذا المضيق ويوجد نهر بالقرب من ذلك المكان يسمى اي « كورش » اذ كان اليونان يسمون كورش بـ« سائرس ».
ملاحظات :
قصة ذي القرنين بشكل عام تحتوي على دروس تربوية كثيرة ، ومواعظ وحكم قيمة جدا ومهمة يمكن الاستفادة منها والعمل على ضوئها من اجل سعادة الامة وادارة الدولة ... ، ويمكن تلخيص هذه الدروس بما يلي :
١ ـ اول درس نتعلمه هو ان اي عمل في هذه الدنيا لا يتم دون توفير أسبابه ، فان الله تبارك وتعالى هيأ الأسباب وتمكن ذو القرنين من الاستفادة منها بالوجه الصحيح وبافضل وجه ممكن ، " فاتبع سببا "
٢ ـ لا يمكن اي حكومة ان تنتصر بدون ترغيب الانصار والاتباع ، ومعاقبة المذنبين والمخطئين ، وهذا في قول ذي القرنين : "قال أما من ظلم فسوف نعذبه ... وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى ". وبلور الامام امير المؤمنين (ع) هذا في رسالته الى مالك الاشتر حيث قال (ع) : " ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء" .
3 ـ رعاية شرائط حياة الامة المختلفة ، والتعامل مع كل مجموعة بما يناسب حياتها الخاصة ، وبذلك يدخل الجميع تحت لوائه ، كما فعله ذو القرنين مع اصحابه.
4 ـ الاستماع الى مشاكل الامة ، والدأب على رفع احتياجاتهم بأي اسلوب كان ، وعدم التفرقة فيما بينهم ، حتى اذا كانت بعض المجموعات من شرائح الامة لم تكن تفهم الكلام وضعيفة الذكاء ولا تنفع الحكومة بأي شيء ـ ولا يكادون يفقهون قولا ـ
. 5 ـ الامن والامان للامة وهما اهم شرط من شروط الحياة الاجتماعية السالمة ، لهذا السبب تحمل « ذو القرنين » اصعب الاعمال واشقها لتامين امن القوم من اعدائهم وبنى لهم السدود ....
٧ ـ الدرس الآخر الذي يمكن ان نتعلمه من قصة ـ ذو القرنين ـ هو ان اصحاب المشكلة الاصليين والذين يطلبون الراحة والامن من الدعاء ، هم بالدرجة الاولى معنيين في الاشتراك في بناء بلادهم وبذل الجهد لحل مشكلتهم ، ورص الصفوف والتعاون الجمعي ، لذلك نرى « ذو القرنين » اعطى امرا الى الفئة التي اشتكت اليه امر يأجوج ومأجوج ـ وان يجلبوا قطع الحديد ، واشعال النار ، والنفخ في النار لاذابة النحاس ، وهذا يعطي قيمة خاصة للنتائج الحاصلة منه ، وللجهود المبذولة فيه ، ومن ثم يحرص الجميع للحفاظ عليه وادامته بحكم تحملهم لمجهودات انشائه.
ونستفيد من هذا ايضا ان المجتمع المتأخر والمتخلف يستطيع ان ينجز اعمالا مهمة وعظيمة اذا تمتع ببرنامج صحيح وادارة امنية وقيادة مخلصة ومؤمنة ....
٨ ـ الزعيم الالهي والقائد الرباني لا يلتفت الى الجزاء المادي والنفع المالي والدنيوي ، وانما يقتنع بما حباه الله ، وعلى هذا نرى « ذو القرنين » عندما اقترحوا عليه الاموال قال : " ما مكني فيه ربي خير " ، وقول النبي محمد (ص) :" انما اجري على الله " وقوله (ص) : "قل لا اسئلكم عليه اجرا الا المودة في القربى ".
٩ ـ إحكام الامور والدقة في العمل والاخلاص هو درس آخر نستفيده من ذي القرنين حيث استفاد من قطع الحديد وقد فصلها بالنار ثم غطاها بالنحاس المذاب في بناء السد كي تمتنع عن التلف والصدأ اذا تعرضت للهواء والرطوبة.
١٠ ـ والدرس الآخر هو ، مهما كان الانسان قويا ومتمكنا وعالما وصاحب انجازات كبيرة ، فعليه ان لا يغتر بنفسه ويقول ما قاله « ذو القرنين » ـ هذا رحمة من ربي ـ وكما تعلمون الرياء يذهب ثواب الاعمال ويبطلها ويبتعد عن الله ، وكل شيء الى زوال واضمحلال مهما كان محكما وصلدا ... أليس الجدير بنا ان نقف امام هذه النقاط المختصرة في عباراتها والمفصلة في معانيها وقفة متفكر ومعتبر كيف نعتبر منها ونعمل على ضوئها حتى نتمكن ان نقف بوجه الاستبداد والطاغوت والمحاريبن لديننا ودنيانا.
المصدر: حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام – السيد مرتضى الميلاني- ج 2