لم تُجدِ محاولات الاحتواء، الإسرائيلية من جهة، والعربية والدولية من جهة أخرى، في وقف الاحتجاجات داخل فلسطين. صحيح أن «الضريبة الكلامية» قدمها القادة العرب والمسلمون، لكن ذلك لم يغيّر من واقع القرار الأميركي شيئاً، وهو ما يعيه الفلسطينيون الذين يدركون أيضاً أن تحركهم على الأرض هو المهم، وأن الجمعة الثانية مهمة أكثر من الأولى لإثبات ذلك. ويشكّل اليوم اختباراً جديداً للمتظاهرين الفلسطينيين بأن يستطيعوا تزخيم تحرّكاتهم ومواصلتها في ظلّ مراهنة إسرائيلية (ومن السلطة) على انكماش الحراك الشعبي، وصولاً إلى إخماده بينما تدخل الهبّة الفلسطينية الشعبية يومها التاسع، ويوم جمعتها الثاني الذي يمثّل نقطة اختبار مهمة لها، تتواصل محاولات الاحتواء الداخلية (السلطة وإسرائيل)، والخارجية (دولياً وعربياً).
فبينما تستمر سياسة التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والعدو الإسرائيلي، مع تجنّب الأولى إعلان إضراب مفتوح للمؤسسات الرسمية والتعليمية، يحرص الأخير على تكثيف الاعتقالات، وخاصة بحق الوجوه المحركة للشباب، كذلك يواصل إجراءات استنفاره المعتادة، مانعاً أي حشود من التجمّع في محيط المسجد الأقصى والبلدة القديمة في القدس المحتلة. وفيما أظهر العدو خلال قمعه المسيرات الماضية «حرصاً» على ألّا يسقط عدد كبير من الشهداء، بقي رهانه قائماً على أن الدخول في ما بعد الجمعة الثانية وبقاء مستوى الاحتجاجات على ما هو عليه، يعني ارتفاع احتمالية امتصاص الغضب واحتوائه.
احتواء دولي وعربي
دولياً، تواصل الولايات المتحدة الأميركية توصياتها لإسرائيل بألّا تعمد إلى استفزاز الجمهور الفلسطيني والعربي بالقرارات المستفيدة من الواقع الجديد، كذلك فإنها لم تعاود التقدم بخطوات أخرى غير توضيح قرارها الأخير، فيما عمدت إلى تأجيل زيارة نائب الرئيس، مايك بنس، حتى تهدأ الأوضاع، خاصة أن قدومه في ظل إعلان السلطة رفضها استقباله قد يؤجج مشاعر الفلسطينيين. وقرر بنس تأجيل زيارته المقررة بعد غد (الأحد) لعدة أيام، كما ذكرت القناة «العاشرة» في التلفزيون الإسرائيلي، مرجحة أن يأتي الأربعاء المقبل.
في غضون ذلك، أبدت الأمم المتحدة استعدادها للعب دور الوسيط بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، وذلك في حديث لنائب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، فرحان حق، قاله في وقت متأخر أول من أمس، في مؤتمر في نيويورك. وأعلن حق أن الأمم المتحدة لديها «الإرادة ومستعدة لكي تقوم على هذا الدور، وتركيزها في الوقت الحالي يتمثل في كيفية انخراط الطرفين في المفاوضات». ورداً على سؤال بشأن موقف الأمين العام أنطونيو غوتيريش، من تأكيد رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، رفضه أي دور أميركي في العملية السياسية بعد الآن، قال: «واشنطن طرف في اللجنة الرباعية لعملية السلام (تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا إلى جانب الولايات المتحدة)، التي تسعى إلى إقناع طرفي النزاع بالجلوس إلى طاولة المفاوضات»، نافياً في الوقت نفسه وجود أي مبادرات جديدة من غوتيريش لإحياء المفاوضات بين الطرفين. لكنه قال: «موقف الأمم المتحدة من القدس واضح، وعُبِّر عنه مراراً... القدس جزء من مفاوضات الوضع النهائي».
أما عربياً، خاصة بعد الحضور الضعيف في القمة الإسلامية، فبدأت الأموال السعودية تتدفق إلى خزينة رام الله، إذ قال السفير السعودي لدى مصر، أحمد قطان، إن «الصندوق السعودي للتنمية حوّل ما يعادل 30.8 مليون دولار أميركي إلى حساب وزارة المالية الفلسطينية، وذلك بقيمة مساهمات المملكة الشهرية لدعم ميزانية السلطة لأربعة أشهر (من آب الماضي حتى تشرين الثاني) بواقع 7.7 ملايين شهرياً».
كذلك، قررت تركيا تقديم نحو 10 ملايين دولار كمنحة جديدة تخصص لـ«دعم التنمية الاجتماعية والاقتصادية ولتلبية الاحتياجات اللازمة في فلسطين... مع مراعاة احتياجات قطاع غزة»، وفق الصحيفة الرسمية للحكومة في أنقرة. دعوات اليوم منذ ليل أمس، وُجّهت دعوات إلى المقدسيين للمشاركة الواسعة في صلاتي المغرب والعشاء في باحة باب العمود في القدس المحتلة، حيث حوّلها الاحتلال إلى ما يشبه منطقة عسكرية مغلقة، خاصة أنها تشهد ما بعد عصر كل يوم فعاليات احتجاجية تتحول إلى مواجهات خلال محاولات قوات العدو لقمعها بالقوة.
وتحديداً تمثّل هذه المنطقة رمزية كبيرة للمتظاهرين، لذلك تعمدت قوات الاحتلال إخلاء المنطقة من الرجال والشبان وحتى الفتية، ووضعت السواتر الحديدية على مدخل باب العمود ومنعت دخول المواطنين وخروجهم. بالتوازي مع ذلك، يتوقع أن يزيد التحشيد في المسجد الأقصى مع اقتحام عشرات المستوطنين، صباح أمس، المسجد، وذلك في اليوم الثاني لعيد «الأنوار» الذي يسمى «الحانوكاه». وبينما بلغ عدد المقتحمين أمس بحماية شرطة العدو أكثر من 180 مستوطناً، بالإضافة إلى 40 من فئة الطلاب تسمح لهم السلطات الإسرائيلية باقتحام جميع باحات الأقصى من دون مسار محدد، يتوقع أن يزيد معدل الاقتحامات في ظل أن العيد المذكور مدته أسبوع (حتى الأربعاء المقبل)، وتتزايد معه دعوات الاقتحام التي يطلقها ائتلاف «منظمات الهيكل». في المقابل، يستعد الغزيون للخروج في مسيرات كبيرة اليوم، إذ أكدت حركة «الجهاد الإسلامي في فلسطين»، في بيان أمس، ضرورة استجابة «جماهير شعبنا لـ (الدعوة إلى) تصعيد الانتفاضة واستمرار الغضب الشعبي في مواجهة الاحتلال».
وطالب البيان الغزيين بالمشاركة في «المسيرات الحاشدة التي تنظمها القوى الوطنية والإسلامية غداً الجمعة (اليوم) على امتداد شارع صلاح الدين من جنوب قطاع غزة حتى شماله»، كذلك طالب «جماهير شعبنا في الضفة والقدس والأراضي المحتلة عام 48 بإعلان الغضب والخروج في تظاهرات حاشدة». وفي مؤتمر سابق أول من أمس، دعت «لجنة المتابعة للقوى الوطنية والإسلامية»، وهي لجنة مشتركة بين الفصائل في غزة، إلى الخروج في «مسيرة مليونية» اليوم. المواجهات مستمرة لليوم الثامن على التوالي، استمرت أمس المواجهات مع قوات الاحتلال في مدن الضفة والقدس المحتلتين والحدود على قطاع غزة.
وشهدت بلدة أبو ديس، في القدس، مواجهات عنيفة بين الشبان وقوات الاحتلال، وتحديداً في محيط جامعة القدس، فيما اعتقل عدة شبان خلال اقتحام بلدة العيساوية، شمال شرقي القدس. وقمع الاحتلال مسيرة قرب بلدتي سبسطية والناقورة، شمال نابلس، شمالي الضفة، كما فعل في المنطقة الشرقية من بورين، جنوب نابلس.
كذلك اندلعت مواجهات متفرقة مع الاحتلال في مخيم العروب شمال الخليل، جنوبي الضفة. أيضاً، اقتحمت قوات الاحتلال جامعة بيرزيت في رام الله، حيث نفذت عملية تفتيش وصادرت إثرها جميع اللافتات والرايات التي جرى تحضيرها للاحتفال بذكرى تأسيس حركة «حماس». إلى ذلك، أعلن رئيس بلدية الناصرة (في فلسطين المحتلة)، علي سلام، إلغاء الاحتفالات التي كانت مخططة في المدينة بمناسبة عيد رأس السنة الميلادية، ما عدا احتفال إضاءة شجرة الميلاد والمسيرة الميلادية التقليدية السنوية، وذلك ضمن سلسلة الاحتجاجات على القرار الأميركي الأخير.
المصدر: جريدة الاخبار