خديجة بنت خويلد بن أسَد بن عبد العزّى بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب، وقد كانت سيّدة نساء عصرها، كمالاً وجمالاً ومكانةً وكرامة، فهي سليلة دوحُة ثابتة الفروع، وفرْع شجرةٍ عميقة الجذور، وقد عُرِفت بين قومها بسموّ الروح وعلوّ الهمّة وقوّة الشخصية، وثبات الفكْرة وصواب الرأي، وقد كانت مع كلّ هذه الثروات المعنويّة والأدبيّة ثرية في مالها أيضاً، وقد كانت تفتّش عمّن تستودعه المال ليُتاجر لها به، على أنْ يكون أميناً صادقاً مُخلصاً، فهي جادّة في طلب ضالّتها من بين شباب قريش وشيوخها، وبما أنّها امرأة لا تُتاح لها المراقبة الدقيقة كانت تحتاج إلى صاحب ثقة تتمكّن أنْ تُودِعه مطمئنّة مرتاحة.
ومحمّد بن عبد الله كان يُفتّش بدوره أيضاً عمّن يدفع له مالاً يُتاجر له به، فهو وإنْ كان فتى قريش الأوّل ومحطّ أنظارهم جميعاً، ولكنّه لم يكن ليستغني عمّا يحتاج إليه غيره من رجال قريش، ويسمع كما يسمع غيره أنّ خديجة بنت خويلد تفتّش عمّن يُتاجر لها بمالها فيتقدّم إليها عارضاً عليها استعداده للقيام بهذه المهمّة.
وخديجة بنت خويلد تلاقي عرضه بالقبول، بل بالرضاء والاطمئنان فهي تعرِف محمّد بن عبد الله وتعرِف عنه الكثير أيضاً، ولم يكن في مكّة مَن لا يعرف محمّداً الصادق الأمين.
فخديجة راضيةٌ لهذه الشركة ومتفائلة بها خيراً، وتدفع له أموالها وهي واثقة من أنّها قد سلّمتها لِيدٍ أمينةٍ حريصة على أداء الأمانة، ولذلك فقد أخلدَت إلى راحةٍ نفسيّة عميقة، وظلّت تنتظر رجوع محمّد بن عبد الله وغلامها ميسرة الذي أرسلته مع محمّد، ورجع محمّد ورجع معه ميسرة.
وكان ( صلوات الله عليه ) يحمِل لها معه الربح الزاكي الوفير، وتخلِد خديجة بنت خويلد إلى غلامها ميسرة تسأله عمّن رافق في السفَر، وتحلِف عليه أنْ يشرح لها كلّ ما وجدَه منه وما رآه عليه، وهي على شبه يقين من أنّ غلامها سيقصّ عليها مِن أمر رفيقه عجَباً، وغلامها مندفعٌ يُعدّد لها مناقبَ محمّد، ويصف لها حركاته وسكَناته والإعجاز في سلوكه، وأُسلوبه وكلّ شيءٍ فيه، وهي منصتة له بقلبها وفكرها وبكلّ جارحةٍ فيها تستزيده ولا تنكر من حديثه شيئاً، ولا تستغرب منه خبراً، فهي قد عرفت أنّ محمّداً بن عبد الله رجلٌ لا كالرجال وقد سمِعت عنه ما جعَلَها على يقينٍ مِن أنّ له في مستقبله شأناً سماويّاً.
خديجة بنت خويلد - وقد أثّرت عليها شخصيّة محمّد بن عبد الله، واستولَت على أفكارها وأمانيها روحُه السامية بكلّ ما فيها من معاني الكمال - تودّ مِن صميم قلبها أنْ تقرِن به حياتها الثمينة، وأنْ تكون له كأروَع ما تكون الزوجة الوفية المخلصة.
نعم خديجة بنت خويلد الغنيّة بمالها وجمالها وعزّها، ومجدها تبعث إلى محمّد بن عبد الله الصادق الأمين وتطلب إليه الزواج حبّاً في شخصه، وتفانياً في روحه ونفسه.
وقد كان ( صلوات الله عليه ) في ذلك الحين شابّاً في أواسّط العقد الثالث من عمره المبارك، وهو يتمتّع بكلّ معاني الكمال من الجمال والعزّة والكرامة وسموّ المكانة وعلوّ الرتبة، وقوّة الشخصيّة وقد كان يتمكّن بسهولة أنْ يخطِب له أيّ فتاة مِن فتيات قُريش مهما علَت بشأنها وجمالها.
فهو منار شباب قريش والمقدّم عليهم في كلّ مضمار، ولكنّه بدافع خفيّ وجَد نفسه يندفع إلى خديجة بنت خويلد السيّدة التي تكبره بخمسة عشر سنة متجرّداً عن العواطف الشهوانية، والأهواء المادّية مترفّعاً عن كلّ ما يصبو إليه غيره مِن متعة جسدّية، وغايات رخيصة.
فهو كان يرى في الزواج شركة روحيّة مقدّسة لا تطغو عليها المادّة ولا تتحكّم فيها النزَعَات الحيوانيّة.
فالزواج في نظَر الرسول الأعظَم امتزاج روحَين، ووحدة هدف، وغاية وتعانِق قلبَين طاهرين قبل أنْ يكون صِلة جسدية.
ومَن أجدَر مِن خديجة بنت خويلد بأنْ تحتل في قلب محمّد وفي حياته مكان الصدارة، وفعلاً فقد دخلَت خديجة في حياة رجلها الخالد كامرأة رابعة، ولكنّها لم تدخل في حياته وهو محمّد بن عبد الله فحسب، بل وهو رسول الله وخاتم أنبيائه أيضاً.
وهكذا كانا مفترقين ثمّ جمعهما القدَر السماوي دون أنْ يشعرا ليضمّ ثروةَ خديجة إلى دعوة محمّد، وما أحوَج الدعوة إلى رصيد تسلك به الطريق، وقد وجَد كلٌّ منهما ضالّته المنشودة في قرينه وصفّيه، فخديجة بنت خويلد ربيبة الترَف والدلال والمتقلّبة في أحضان النعمة والثراء، تفنى في رجلها الحبيب الفقير، وتتعرّف في كلّ لحظة على معنىً من معانيه، يزيدها فناءً فيه ويُحبّب إليها ذلك الفناء.
ومحمّد بن عبد الله أحسَن رجال قريش شكلاً، وأعرقِهم أصلاً، وأصدَقِهم لساناً، وأقواهم جِناناً، وأذيَعهم صيتاً وأعلاهم درجةً وهو في الخامسة والعشرين مِن عمره الشريف يخلص لزوجته الوفيّة خديجة، وهي في الأربعين من عمرها المبارك. يخلص لها خلوص الزوج الواثق ويركَن إلى حنانها وعطفها ركون الابن إلى أُمّه.
وخديجة هي رابعة امرأة دخلَت في حياته ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، ولكن أتراه كان نسيَ النساء الثلاث اللاتي تقدّمنها...
أتراه قد أهمل ذكرهُن أو تجاهَل وجودَهُن في حياته الماضية ؟
كلا ؛ فإنّ محمّداً بن عبد الله لم يكن من النمَط الذي ينسى مَن أحبّوه، أو يتجاهل ذِكر مَن لَم يتجاهلوه.
وما أكثر ما كان يسرَح مع أفكاره في ساعات عزلته، ويرجع بها إلى الوراء إلى أيّام حداثته، وصباه الأوّل، مِن عهد أُمّه آمنة إلى مرضعته حليمة، إلى زوجة عمّه الكريمة فاطمة بنت أسد، ويقف معهنّ عند كلّ لمحة حبّ، أو لفتةِ عطف، ويدعو لهنّ بالرحمة والغُفران، وكان يرى حياته الماضية، وكأنّها شريطٌ يتَتابع ويتلاحَق أمام عينَيه بكلّ ما يحمِل هذا الشريط مِن إكرام وآمالٍ ومِحَن، ومصاعب.
ثمّ يعود ليستقرّ بأفكاره عند واقعه الحالي، ويُركِّز على خديجة هذه السيّدة الطاهرة التي يحسّ بها كقوّة خفيّة تشدّ ظهره، وتسند كيانه، وكأنّه كان يعلَم أنّها سوف تقِف معه، إذ لا واقف غيرها، وتصدّقه حين لا مصدّق سِواها، وتمضي السنون تتلاحق، والأحداث تتابع ومحمّد بن عبد الله هو وخديجة بنت خويلد يشقّان طريقهما معاً في الحياة وقد ظلّلتهما سَماء الحبّ وأحاطتهما يدُ الإخلاص والوفاء.
وكان ( صلوات الله عليه ) كثيراً ما يعتكِف الساعات الطوال في غار حِراء، يعتزل بها الدنيا بروحه وفكره، وجسده، ويروح يسبَح في ملَكوت السماوات.
وما أكثر ما كانت تستبطئه خديجة وتفتقد قدومه في وقته المعين، فتذهب بنفسها غير واثقة من أنْ تنيب عنها خادمه أو ترسل دونها رسولاً، تذهب لتفتّش عنه في الأماكن التي تعلَم أنّه يزورها دائماً، وخصوصاً غار حراء.. فقد كان هو الخلوة المفضلّة لدى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ).
وقد كانت خديجة تحمل له بيدها الطعام والماء، ولا تذهب إلاّ للاطمئنان على سلامته، فقد كانت تشجّعه على هذا الاعتكاف لثقتها من أنّ وراء هذه الخلَوَات رسالة مقدّسة سوف يحملها بعلُها الغالي.
ولذلك فلَم تكن تتبرّم لغيابه أو تعتب عليه، وكانت تشعر بروحها وهي تذهب معه أينما ذهب، فهي معتكفةٌ معه في الغار، وهي سارحة وإيّاه في البراري والقفار، فإنْ فاتها أنْ تُسايره جسميّاً فإنّها لم تكن لتفارقه روحيّاً، وفكرياً.
وكانت تُتابع حركاته وسكَناته بعينها الساهرة الحنون وهي رفيقةٌ به عطوفةٌ عليه..
وفي أحدِ الأيّام يدخل على خديجة زوجُها المصطفى بعد أنْ كان قد أمضى في غار حِراء الساعات الطوال، فتنشط لاستقباله هاشّة باشَّة، ولكنّها تنكر منه حالَه ولونَه، وتنكر منه ما يبدو عليه من ضعفٍ وإعياء، فهُو شاحبُ اللون مجلّلٌ بالعرَق، ويطلب إليها أنْ تُدثّره، وهو يرتعِد، فتُدثّره خديجة وهي مِلحاحة في التعرّف إلى ما يُخامره، فلَم تعهد بمحمّد ضعفاً، ولم يصدف لها أنْ رأت الاضطراب بادياً عليه كما تراه الآن، وهي تعلم أنّ زوجها الحبيب لا يضعف، ولا يتخاذل لأيّ سببٍ مهما كان مؤثّراً ومهما كان صعباً.
ولذلك فهي تسأله في إصرارٍ وإلحاح وهو يتهرّب مِن الجواب ويُماطل في الردّ، ولكنّ خديجة الزوجة وخديجة الرفيقة والصديقة تأبى إلاّ أنْ تتعرّف إلى حاله، وتفهم السبب كيما لا تتأخّر عن موقفها الطبيعي في السير معه في كلّ مضمار، وإلى كلّ غاية. وأخيراً يُخبرها الرسول بما سمِع ويشرح لها ما أحسّ، ويقصّ عليها خبَر الروح الذي فاجأه في غار حِراء وقال له :
(اقرأ )، فيجيبه : ( ما أنا بقارئ )، فيكرّرها عليه ثلاثاً، ويرد الجواب نفسه ثلاثاً أيضاً فيقول، الروح :
( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ( صَدَقَ اللهُ العَظيم ).
وهنا تسأله خديجة وهي في نشوةٍ روحيّةٍ نشطة : ألَم تسأله مَن أنت، ألَم تسأله عن اسمه ؟ فيجيبها ( صلوات الله عليه ) قائلاً : ( سمعته يقول : أنا جبرئيل، جئت أُبلّغكَ رسالةَ ربّك )، ثمّ يردف، وكأنه يُريد أنْ يبثّ خديجة ما يحسّ وأنْ يُشاركها بأفكارها.
قال : ( لقد خشيت على نفسي ).
فتجيبه رضوان الله عليها باندفاع وحماس.
كلا والله، ما يخزيك الله أبَداً إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتُكسِب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وتصدِق الحديث، وتؤدّي الأمانة.
بهذه الكلمات البليغة الحكيمة ردّت خديجة على زوجها مشجّعة مصدقة، وكلّها اطمئنان إلى صِدْق محمّد بن عبد الله، ثمّ ينزل عليه الوحي ليأمره بأنْ ينذر، وأنْ يُبلّغ ويدعو إلى رسالة السماء، وينهض رسول الله لكي ينذر وتنهض خديجة أيضاً تهبّ معه بكلّ طاقاتها وإمكانيّاتها المعنوية، والعاطفية، والمادية.
ومضَت تواكب سَيره المبارك في كلّ مضمار، وعندما خرَج ليُصلّي في المسجد لأوّل مرّة، وخرَج معه ابن عمّه عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام )، كانت خديجة ثالثتهما في الصلاة، لم تقعد بها خيفة ولم يُثنها عن اندفاعها الإسلامي تردّد أو شكّ ؛ فهي تعرف محمّداً كما لا يعرفه غيرها من الناس، وتثقُ فيه ثقةً مطلقة.
وهذه إحدى نواحي الإعجاز في النبيّ، فإنّ أكثر عباقرة التاريخ كانوا يُعانون الأمرَّين مِن تصرّفات زوجاتهم، وعدَم تصديقهن بعبقريّتهم، فإنّ الإنسان الاعتيادي مهما كان عبقرياً فذّاً لا يُمكن له أنْ يخلو من نقصٍ، ونقاطٍ ضعف إذا فرض فأمكن له أنْ يخفيها عن كلّ أحدٍ لا يمكن له أنْ يخفيها عن زوجته التي هي أقرب الناس إليه، بالنسبة إلى رسول الله وزوجته خديجة انقلبت هذه القاعدة، فأصبحت الزوجة أوّل مصدّقة ومؤيّدة ؛ لأنّه ( صلوات الله عليه ) كان فوق مستوى غيره من الرجال مهما كانوا عباقرةً وأفذاذاً، فكلّما كان الشخص قريباً منه كان أكثر حبّاً له، وأكثر عقيدة، وأرسَخ إيماناً برسالته، ودعوته.
فقد كانت عواطفه الإنسانية عامّة شاملة لكلّ نواحي الحياة، سيّان في علاقاته الداخلية أو الخارجية، حتى أنّه كان إذا لقِيَه أحدٌ من أصحابه فقام معه فلَم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه.
وإذا لقيه أحدٌ فتناول يدَه ناوله إيّاها فلَم ينزع يدَه منه حتى يكون الرجل هو الذي يدَع يده.
وكان أشدّ حَياءً من العَذراء في خدرها.
وكان أصبر الناس على أقذار الناس.
كان عطوفاً على كلّ ضعيف بارّاً بكلّ مسكين، ما ضرَب أحداً وما نهَر خادماً قط.
وقد رُوي عن أنَس أنّه قال : خدَمت النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عشرَ سنين فما قال لي أُفٍ قط، ولا قال لي لشيء صنعته لمَ صنعته، ولا لشيءٍ تركته لم تركته.
وحتى زيد بن حارثة الذي خُطِف من أهله وهو صغير ثمّ اهتدى إليه أبوه واهتدى هو إلى أبيه على لهفةِ الشوق بعد اليأس من اللقاء، فلمّا خُيِّر بين الرجعة إلى أبيه وبين البقاء مع الرسول اختار البقاء مع السيِّد عن الرجعة إلى الوالد، وشقّ عليه أنْ يفارق ذلك الرصيد العامر بالعطف والحنان، والذي غمره بحبّه ومواساته، إذ هو ضعيف شريد لا يرى ذويه، ولا يدري مَن هم ذووه.
وحتى مولاه ثوبان، والمولى في أغلَب الأحوال يكون كارِهاً لمولاه، حاقداً عليه قالياً له ؛ نظراً لِما يحسّه من تقدّم سيّده عليه ومالكيّته له، ولكنّ ثوبان نحَل وظهر عليه الحُزن في ليله ونهاره فلمّا سأله ( صلوات الله عليه ) عن سبب ذلك قال : قُرب منيّتي وخوفي مِن فراقك ؛ لأنّك في الجنّة سوف تكون في درجات الأنبياء فلا أستطيع أنْ أراك.
ولهذا نزلت الآية الكريمة التي تبشّر المؤمنين المخلصين بصحبة الأنبياء الصالحين : ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ) النساء/69.
هذه نواحٍ تكشف عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بما هو إنسانٌ كامل حتى في نظر زوجته ومولاه ومرافقه، هؤلاء الذين تنكشف لهم على الخصوص أخفى نواحي النقص، وأدقّ نقاط الضعف.
هكذا كان ( صلوات الله عليه ) في نبوّته وقبلها.
هكذا كان في محيطه الضيّق، وفي محيطه الواسع.
ولهذا ولكونه الرجل الكامل والإِنسان الكامل، بعثه الله بالنبوّة، وحمله ثقل أقدَس رسالة بعثت للناس.
وهكذا بُعث محمدٌ الرجل الأوّل والإِنسان الأوّل ليكون النبيّ الأوّل، وكانت خديجة من ورائه تسانِد وتعاضد، فما أكثر ما امتُحنت وإيّاه، وما أكثر ما شدّد عليهما الكفّار وتهدّدت حياتهما بالخطر، وما أكثر ما رجع إليها الرسول وهو مصاب بجروحٍ ورضوض، من قبل الأعداء ولم تكن لتزيدها هذه الأحوال إلاّ صموداً ولم تكن لتهبها إلاّ قوّةً وعزيمةً وثبات إرادة.
فقد نفذ نور الإِسلام إلى الأعماق من روحها وفكرها، فاستنارت بنوره واهتدَت بهداه ومن خصائص الإِسلام ومميّزاته بوصفه عقيدة ثورية تتّسق مع الفطرة والعقل، وتغمر الوجود الإنساني كلّه أنّه إذا استقرّ في قلبٍ، وأيّ قلب كان، فتَح أمامه أبواباً للتضحية والفداء، فمَا أكثر النساء المُسلمات اللاتي قدّمْنَ الضحايا مِن الآباء والأبناء وهُنّ أكثر ما يكُنّ ثباتاً وقوّة، بل وكُنّ يَستهِنّ بالموت من أجل القضية الإسلاميّة، أمثال أُمّ عمّار بن ياسر التي صمَدَت على كلمة الإسلام أمام كلّ الوسائل الوحشيّة التي اتخذت لتعذيبها والتنكيل بابنها وزوجها، وكان رسول الله يمرّ عليهم وهُم يُعذّبون فتطفر الدموع من عينيه ويبشّرهم بالجنّة نزلاً، وكثير غيرها من النساء المسلمات اللاتي اعتنَقنَ الإسلام في أحرَج أدواره وأشدّها، ولكنّ المجال لا يتّسع لنا لذكرهنّ جميعاً، ولعلّنا سوف نلتفت إلى هذه الناحية من حياة المرأة المسلمة في رسالة خاصّة تُبيّن مُواكَبة المرأة للإسلام وأثرها في الدعوة الإسلامية.
فقد كانت المرأة المسلمة تذهب إلى ساحات الجهاد لتشجّع إخوتها وأولادها على خوض غِمار الحرب، وهي معهم تطبّب وتداوي وتسقِي العطشى وتعين المصاب، ولا يزيدها فقد الأولاد والأخوة والأعمام إلاّ حرصاً على الإسلام وتفانياً فيه.
وقد كانت المرأة المسلمة تسمَع بأذنيها نعي أعزّائها وأحبّائها، وهي لهفانة في الوقت نفسه للاطمئنان على سلامة رسول الله، وعلى هذا فلا عجَب إذاً، إذا كانت خديجة زوجة الرسول أوّل مُصدّقة به وأقوى ساعد لديه، والواقع أنّني حينما أُراجع سِيَر النساء المسلمات في صدر الإسلام وأقرأ تضحياتهنّ ومواقفهنّ أكاد أسأل جادّةً هل نحن مسلمات حقّاً.
هذا الإسلام هو الذي نوَّر قلب خديجة بعد إذ انبثقت أنواره من غار حِراء ومن بيتها هي بالذات، ولهذا فقد كانت خديجة ( رضيَ الله عنها ) جديرةً بهذا الاندفاع الإسلامي، وهي التي اصطفَت محمداً لنفسها منذ زمنٍ بعيد، وبعد أنْ عرَفت أنّه صاحب رسالة مقدّسة، ولذلك فهي لم تُفاجأ ولم تستغرِب عند سماعها بخبرِ الوحي الذي نزَل على زوجها في غار حِراء، وقد قنعت من زوجها بكلماتٍ قلائل سُرعان ما صدّقَته بعدها، وآزرته وهي أقوى ما تكون فكرةً راسخة مركَّزة، وإحساساً فيّاضاً صادقاً.
واستمرّت خديجة أُمّ المؤمنين تحيى بحياة الرسالة المحمّدية وتستهين في سبيلها بكلّ المصاعب والمِحَن، وقد بذلَت في هذا الطريق كلّ ما تملك من مال حتى أصبحت وهي الغنيّة الواسعة الثراء فقيرةً لا تملك شيئاً، وقد استنفدت بدعوتها رصيدها الضخم من المال، ولم يبقَ منه حتى النزر القليل، فهي تطوي جوعاً إذا طوى النبيّ، وتشبع إذ يشبَع بالذي يشبع فيه، وهذا يُبيِّن مدى التفاوت بينها وبين باقي أُمّهات المؤمنين، الفارق الذي جعَل رسول الله يحنّ إليها إلى آخرِ يومٍ مِن حياته الشريفة.
فهي قد بذلَت للإسلام كلّ ما تملِك يوم كان الإسلام وحيداً، وصلَّت مع رسول الله يوم لا مصلِّية غيرها، بينما احتجّت أُمّهات المؤمنين الأُخريات على النبيّ، بعد أنْ عمّت كلمة الإسلام جميع البِقاع وطالبن بزيادة النفقة وتوسيع المعيشة عليهن ؛ ولم تثنهن نصائح النبيّ عن ذلك، حتى أنّه جاء في الروايات أنّ أبا بكر دخَل على النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ومعه نساؤه فوجَده حزيناً وعرَف السبب في ذلك فقام على أبنته يُريد أنْ يجأ عنقها ؛ لأنّها آلمَت الرسول واعترضت طريق دعوته بمطاليبها المادّية، حتى نزلَت الآية الكريمة (سورة الأحزاب آية 28 - 29) التي خيّرت نساء النبيّ بين متاع الحياة الدنيا وبين رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) فاخترن صحبة الرسول الأعظم بعد أنْ قُطعت أمامَهُنّ السُبل، وقد كانت خديجة ( صلوات الله عليها ) لا تألو جُهداً في بذلِ يدِ العون للدعوة الإسلاميّة بكلّ ما يَسعها ذلك، وقد حدَث مثلاً أنْ فرضَت قريش على بني هاشم حصاراً في منطقةٍ تسمّى بمنطقة الشِّعب أو شِعب ( أبو طالب ) وقد منعوا عنهم في هذا الحصار الماء والزاد، وكان الموت جوعاً يُهدّد جميع بني هاشم لولا أموال خديجة، فإنّها كانت تبعث مَن يشتري لهم الطعام سرّاً وفي أغلى ثمن، تستنصر وتستعين بأولاد إخوتها وأخواتها على ذلك، وبذلك أمَّنت الغذاء لبني هاشم المُحاصرين في الشِّعب.
فلهذا ولغيره من المواقف الفذّة في تاريخ الإسلام احتلّت رضوان الله عليها الصدارة في قلب النبيّ وفي حياته الشريفة.
*من كتاب المرأة مع النبيّ (ص (في حياته وشريعته - الشهيدة بنت الهدى