المقدمة
تعد قضية (الوحدة والتضامن الإنساني) إحدى الهبات والنعم الإلهية الكبرى ومن الأهداف الهامة للشرائع السماوية والانجازات الإنسانية القيمة.
الوحدة والتضامن، ضرورة فطرية وعقلية وشرعية وسياسية واجتماعية، ومن أبرز مقومات المجتمع والحضارة الإنسانية. فليس أمام الإنسان من خيار غير القبول بها ليس من أجل استمرار الحياة الاجتماعية فحسب، وإنما من أجل تحقق الحياة المنشودة.
ومثل هذه النعمة الإنسانية الكبرى والهبة الشرعية العظمى، شكّلت هدفاً لكافة الأنبياء الإلهيين وائمة الدين الإسلامي وكبار المصلحين من بني الإنسان.
الوحدة والتضامن عنصر أساسي في الاعمار والازدهار والتقدم والمضي قدماً بمسيرة التنمية الثقافية والسياسية والاقتصادية والنجاح والموفقية في مختلف ميادين الحياة.
كما أن صيانة الثورة الإسلامية واستمرارها وازدهارها واتساع دائرتها، ورسوخ قيمها، لا يتحقق إلا في ظل الوحدة والاتحاد.
إن اهمية الاتحاد والوحدة بالنسبة للإنسان ولأتباع طريق الحق، بدرجة جعلت الله تعالى يؤكد على هذا الأمر وينهى عن التفرقة: ((واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا))(1).
وكثيراً ما كان الإمام الخميني (قدس سره) يؤكد على الضرورة العقلية والشرعية للوحدة والتضامن بين المسلمين والمجتمعات الإسلامية، حتى أن سماحته كان يعتبر (الوحدة) أحياناً (واجباً إلهياً):
من الواجب علينا نحن ابناء الشعب جميعاً في اي موقع كنا.. وجوباً إلهياً، بأن نتكاتف ونتحد فيما بيننا. (2)
هذا في وقت تعتبر التفرقة والتشتت من أبرز عوامل انحطاط المجتمعات وضعفها وتخلفها وهزيمتها. وهو أمر يمكن البرهنة عليه سواء على الصعيد التاريخي أو النظري.
وفي عصرنا الحاضر شهد العالم الإسلامي العديد من الاختلافات المدمرة نتيجة لمؤامرات الأجانب وعوامل عديدة أخرى، مما مهّد الأرضية لهجوم الغرب واعداء الأمة الإسلامية. حيث شكّلت الاختلافات والتفرقة تهديداً حقيقياً للعالم الإسلامي ولكل مجتمع من مجتمعاته.
بيد أن ثمة جهود قيمة بذلت خلال القرون الأخيرة على طريق وحدة المسلمين، اضطلع بها مفكرون كبار أمثال السيد جمال الدين الاسد آبادي ومحمد عبده. كما نهض رجال كبار في العديد من المجتمعات الإسلامية على خطى هذين الرجلين، رافعين نداء (الوحدة)، وبادروا إلى تأسيس (دار التقريب بين المذاهب الإسلامية)، واستطاعوا أن يحققوا انجازات قيمة في هذا المجال.
الإمام الخميني (قدس سره) بصفته مفكراً وفقيهاً كبيراً، وباعتباره قائداً للثورة الإسلامية في إيران، أولى قضية الوحدة وابعادها المختلفة اهتماماً خاصاً، واستطاع أن يخطو خطوات عملية أساسية على طريق تحقيقها بين المجتمعات الإسلامية.
وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى اعتماد سماحته مبدأ التقية في عدد من الفتاوى التي اصدرها في هذا المجال(3) وتدوين رسالة في هذا الموضوع، واحياء صلاة الجمعة، واطلاق مسألة البراءة من الكفار والمشركين في مراسم الحج، والاعلان عن اليوم العالمي للقدس، إلى غير ذلك.
مفهوم الوحدة والاتحاد
استحوذت قضية الوحدة على اهتمام المسلمين على مرّ التاريخ لا سيما في العصر الحديث. فحيناً كانت الوحدة موضع اهتمام بدافع تشكيل نظام سياسي – اجتماعي واحد على صعيد العالم الإسلامي. وفي حين آخر حظيت الوحدة بالاهتمام من منطلق فكري (عقائدي وسياسي و...). واحياناً كانت الوحدة واتحاد المسلمين موضع اهتمام بدافع التصدي للمخاطر والتهديدات التي تواجه الإسلام والمسلمين، إذ أن بمقدورها إحياء روحية النضال والحمية الدينية والشهامة لدى المسلمين.
في الحقيقة ان الوحدة والاتحاد كلاهما يجسدان(التوحد)،(الشكل الواحد)،(التضامن)،(الحركة باتجاه واحد)،(التعاطي من اتجاه واحد)، من اجل الوصول الى هدف واحد. اذن الوحدة والاتحاد بمعنى انهما في مقابل مفاهيم من قبيل التكثر والتشتت والاختلاف والتفرقة ونظائرها. ومن الناحية الفلسفية يعني الوحدة في مقابل الكثرة.
وتأسيسا على هذا فان تحويل الجمع الى واحد والكثير الى الواحد والتعدد الى التوحد والجهات المختلفة الى جهة واحدة والاهداف المختلفة الى هدف واحد والطرق المتعددة الى طريق واحد، يبين مفهوم ومعنى الوحدة، وان الحركة في المجتمع البشري تكون نحو هدف واحد. بمعنى ان اي مجموعة تحمل هدفا مشتركا وانها تختار مسيرا مشتركا من اجل الوصول الى اهدافها المنشودة، وان الجميع يتحرك معا في هذا المسير المشترك، يقال بان لهذه المجموعة وحدة واتحادا، واحيانا يطلق عليه الاجتماع ايضا.
ومن هنا فان الامام الخميني(رض) وفي معرض تطرقه الى مفهوم الوحدة ضمن اشارته الى الآية الشريفة(واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا)(4) ، يطلق على الوحدة والاتحاد مفهوم الاجتماع والكون معا في امر واحد(5). وسنوضح(ماهية الوحدة من وجهة نظر الامام الخميني) لاحقا.
مستويات الوحدة
اهتم القرآن الكريم بالوحدة على أربعة مستويات عامة:
ألف – على المستوى العالمي أو الوحدة الإنسانية
من وجهة نظر القرآن ، الأفراد موجودات على درجة واحدة ومتساوية، وليس هناك أية أفضلية ذاتية لبعضهم على البعض الآخر. العرب والعجم والأبيض والأسود، الجميع متساوون عند الله وتجاه معايير الحق والحقيقة. وإذا ما كان ثمة تباين في الطبيعة والخلقة فهو من أجل التعارف وليس التمييز والاختلاف. وعليه، فالوحدة الإنسانية إنما هي وحدة طبيعية وفطرية، إذ أن ثمة ميولاً ورغبة لدى الجميع نحو الاجتماع والاتفاق تجاه نظرائهم النوعيين. وفي هذا الصدد يشير القرآن الكريم إلى موضوع الأصل الواحد لبني البشر معتبراً التباين العرقي عاملاً للتعارف: ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم))(6).
تشير الآية إلى ثلاث قضايا تؤكد كل واحدة منها على وحدة واتحاد النوع البشري:
1- خلق الناس من رجل وامرأة واحدة (أصل واحد).
2- الناس شعوب وقبائل لمجرد التعارف والتواصل والتقارب فيما بينهم. فمن الطبيعي أن يتحقق التواصل إثر التعارف، وان الوحدة تنشأ من اللقاء والترابط والمودة.
3- معيار الأفضلية عند الله التقوى التي هي أمر اكتسابي منوط بهمة الفرد وجهده. والتقوى تحول دون التفرقة والاختلاف والتمييز وغياب العدالة.
بيد أن الإمام الخميني كان يتطلع، بنحو ما، إلى وحدة واتحاد المستضعفين أيضاً. وبطبيعة الحال أن هذا النوع من الوحدة، ذات بعد سياسي من وجهة نظر الإمام، وينبغي الاهتمام به بدافع التصدي للقوى الظالمة وتحقيق العدالة في العالم:
إذا أراد العالم التخلص من شرّ الفساد، لا بد من تعاضد المستضعفين جميعاً ووضع أيديهم على أيدي بعض والعمل معاً على تقويض قدرات المفسدين في بلدانهم وحكوماتهم... إذا ما أراد المستضعفون في العالم أن يحيوا حياة حرة كريمة لا بد لهم من الاتحاد والتكاتف فيما بينهم..(7)
ب – الوحدة بين اتباع الأديان الإلهية، أو وحدة أهل الإيمان
يتجلى هذا النوع من الوحدة في اتحاد المؤمنين بالتوحيد واتباع الأديان السماوية، والعمل معاً على طريق تحقق التوحيد:
((قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً..))(8).
ففي هذه الآية ثمة تأكيد على أن الكلمة التي بيننا وبينكم أنما هي كلمة واحدة، أي التوحيد والابتعاد عن الشرك والتمسك بالوحدة.
ولا يخفى أن وحدة الأديان سواء على صعيد معرفة الوجود ومن الناحية الايديولوجية، تتجلى في ضوء مبدأ التوحيد فحسب والاعتصام بحبل الله، إذ أن التمسك بالتوحيد يتبعه تحقق الوحدة بالضرورة:
إذا ما اجتمع الأنبياء في مكان واحد، فلن يختلفوا فيما بينهم مطلقاً.. إذا ما افترضنا أن الأنبياء والأولياء اجتمعوا الآن في هذه الدنيا، فانهم لن يختلفوا فيما بينهم أبداً.(9)
ج – الوحدة على مستوى دار الإسلام، وحدة المسلمين أو الأمة الإسلامية
الوحدة والاتحاد والتكاتف والتآزر على هذا الصعيد، لن تكون على الخلفية الإنسانية وإنما من منطلق الإيمان بالتوحيد وأصول الدين الإسلامي الأخرى. وان الوحدة التي تحظى بتاكيد الإمام الخميني إنما هي وحدة الأمة الإسلامية. ويشير القرآن إلى هذه الوحدة قائلاً:
((إن هذه امتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون))(10).
هذا ويعبر أحياناً عن الوحدة الإسلامية بـ (الأخوة الإسلامية) بمعناها الحقيقي والدقيق، حيث تدل على الألفة والتكاتف والمودة والعاطفة فضلاً عن الإيمان والاجتماع والاعتصام بحبل الله. وكان هذا النوع من الوحدة موضع تأكيد سماحة الإمام كثيراً وكان يحرص على لفت الانظار إليه مراراً وتكراراً:
إن أحد ابرز الحلول، والذي يعد أساس كل الحلول وبوسعه اجتثاث جذور الآلام والقضاء على الفساد، يتمثل في وحدة المسلمين، بل وكافة المستضعفين والرازخين في الأسر في العالم.. ولابد من العمل على تحقيق هذه الوحدة التي أكد عليها الإسلام والقرآن الكريم، من خلال الدعوة إليها والنشاط الإعلامي الواسع في هذا المجال.(11)
اذا لم تتضامنوا وتضعوا أيديكم في أيدي بعض، وما لم تصونوا الأخوة الإسلامية، لن يتسنى لكم الصمود والثبات أمام القوى الكبرى. (12)
د – الوحدة على مستوى البلد والشعب (الوحدة الوطنية أو وحدة فئات الشعب)
تبنى مثل هذه الوحدة على أساس المقومات الوطنية المشتركة نظير الثقافة واللغة والعرق والتاريخ، أو على أسس قومية عموماً وتتمحور حول المصالح الوطنية.
ويرى الإمام الخميني بأن أهمية هذا النوع من الوحدة تتجلى داخل البلاد في صيانة الثورة الإسلامية والمحافظة على الجمهورية الإسلامية والتحرر من قيود الاستكبار:
ينبغي لكم أيها السادة، أنتم أيها الشباب وكافة فئات الشعب، المحافظة على السرّ الذي حقق لكم النصر ألا وهو وحدة الكلمة.. دعوا الاختلاف جانباً.. كونوا كالأخوة فيما بينكم.. تقدموا معاً وبهدف واحد ألا وهو استقرار حكومة العدل الإسلامي للجميع.. العدالة للجميع.. إنني أطلب من كافة أبناء الشعب بالحرص على صيانة وحدة الكلمة، وأن لا يدعوا هؤلاء يبثون الفرقة بين صفوفهم.(13)
ماهية الوحدة من وجهة نظر الإمام الخميني
لدراسة ماهية الوحدة لابد لنا من التعرف على خصائصها وسماتها من وجهة نظر الإمام الخميني. وفيما يلي سنحاول الإشارة إلى ابرز الخصائص العامة للوحدة كما يراها سماحته:
1 – الاعتصام بحبل الله
من وجهة نظر الإمام الخميني، الاجتماع والاتحاد المطلوب هو الذي يتشكل حول محور الاعتصام بحبل الله. إذ أن سماحته كثيراً ما كان يؤكد على الوحدة المقرونة بالاعتصام بالحبل الإلهي استناداً إلى الآية الكريمة ((واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)):
لقد امر الله تبارك وتعالى بالاجتماع والاعتصام بحبل الله: ((واعتصموا بحبل الله)).. أمر بالاجتماع والتمسك بحبل الله. إذ أن ليس كل اجتماع مطلوباً، الاعتصام بحبل الله هو المطلوب. وهو ذات الأمر بالنسبة ((إقرأ باسم ربك)).. اسم الرب هو هذا الحبل الذي يجب على الجميع ان يعتصموا به، أدعوا الناس إلى الوحدة، ادعوهم لئلا يتشتتوا فئات وجماعات.(14)
وفي هذا النص يحاول الإمام التمييز بين موضوعين:
ألف – وجود الوحدة:
أي الوحدة التي تنشأ من الاجتماع والتجمع، بأن تجتمع عدة حول امر ما ويكون لها أهداف مشتركة، ان مثل هذا الأمر يعتبر اعتيادياً وطبيعياً ويحظى بتأييد كل دين ومذهب حتى المذاهب غير الإلهية. وعليه فمن البديهي أن يبادر الأفراد إلى التجمع والتضامن لأداء أمر مشترك.
ب – ماهية الوحدة ومضمونها:
يؤمن الإمام الخميني بأن الذي يضفي أهمية على حقيقة الوحدة وماهيتها انما هي الدوافع التي تقف وراء تشكيلها والأهداف التي تتطلع إليها والمحاور التي تدور حولها. وفي هذا الصدد يتمثل محور الوحدة في فكر الإمام الخميني بـ (الاعتصام) و(حبل الله). والاعتصام يعني التشبث بهدف الوجود. وهذا يعني أن الوحدة ذات صلة تامة بالتوحيد، لأن طريق الحق وحده الذي بوسعه أن يوحد الناس فطرياً حول الله، إذ أن ثمة ميولاً فطرية لدى الناس نحو الحق والحقيقة. وأن مثل هذه الميول في الحقيقة موجودة لدى الناس جميعاً. وعليه فالوحدة التي تكون بمعزل عن الاعتصام بالله وحبله والحقيقة، لا معنى لها. وهذا يعني أن مجرد الاجتماع حول محور مشترك فحسب، ليس أكثر من اجتماع مؤقت وغير حقيقي وغير محبب:
ليس كل اجتماع مطلوباً.. المطلوب هو الاعتصام بحبل الله.. ادعوا الناس لئلا يتشتتوا إلى فئات وجماعات.(16)
والحبل الإلهي يعني الربوبية.. اسم (الرب) هو الحبل الإلهي ذاته.. بمعنى أن التدبير وادارة شؤون العالم والتحكم المطلق بالوجود، له وحده. وبتعبير آخر، أن الإمام يعتبر حبل الله (طريق الحق)، طريق الصدق، طريق الله والأنبياء الإلهيين، والذي هو عين قبول الربوبية وسيادة الله المطلقة على عالم الوجود.
وكون الوحدة بحاجة إلى المحور والمبنى، والأساس الواحد، و تنشد هدفاً واحداً، لذا يمكن النظر إلى التوحيد بمثابة محور أساسي للوحدة، لأن الناس في المجتمع التوحيدي يمضون في مسير واحد ((إنا لله وإنا إليه راجعون))، على خلاف مجتمع الشرك والكفر حيث توجد مسارات متعددة.
وفي ضوء ذلك فالذي يشكل حقيقة الوحدة والاتحاد وماهيتهما إنما هي (العبودية) تجاه (ربوبية) و(ألوهية) الحق المتعالي. و(الاعتصام بحبل الله) يفيد هذا المعنى. وان ما يستنبط من الآية الكريمة ثلاث ملاحظات رئيسية هي:
1- (جميعاً) التي تشير إلى الإرادة الجماعية والاجتماع.
2- (واعتصموا بحبل الله)، وهو الاعتصام بالحبل الإلهي في حالة الاجتماع، ومثل هذا يوضح محور وبنيان وماهية الوحدة والمجتمع (جميعاً).
3- (ولا تفرقوا) وتعني النهي عن التفرقة والتباعد. فمع وجود الاعتصام بحبل الله تنتفي في الحقيقة التفرقة والتشتت. لأن طي طريق الحق ينبغي أن يكون بصورة جماعية وشاملة وبمعزل عن الاختلاف والفرقة. ولهذا كان رسول الله (ص) لا يكف عن التأكيد على أهمية الجماعة والاجتماع على الأمر الحق.
2 – المصلحة العامة للأمة الإسلامية
من الأركان الرئيسية الأخرى للوحدة الإسلامية (المصلحة العامة للأمة الإسلامية)، يعبر عنها أحياناً بصلاح الأمة، أو مصالح الجماعة.. إذ ينبغي التغاضي عن الاختلافات الجانبية كلما اقتضت المصلحة العامة للمجتمع الإسلامي ذلك، والتضحية بالمطالب الفردية والفئوية من أجل مصلحة الاجتماع.
يقول الإمام الخميني حول ضرورة صيانة المصلحة العامة:
اليوم يوم ينبغي أن تتضامن فيه كافة القوى، وان يعمل الجميع على صيانة النظم، فإذا ما انهار النظام سوف يضطرب الوضع ويرى الجميع أنفسهم ضحية الإسلام.. كونوا على أهبة الاستعداد، واحذروا الاختلاف فيما بينكم. إنكم مازلتم في منتصف الطريق.. دعوا الاختلافات جانباً.(17)
من الواجب على الجميع في هذا الظرف الحساس، حيث يواجه الإسلام التحديات ويعاني البلد من العديد من المشاكل، أن يكونوا صوتاً واحداً، وأن نمضي معاً بالنهضة قُدماً بخطى ثابتة، وسنحقق النصر النهائي بمشيئة الله.(18)
وفي ضوء ذلك، تشكل المصالح العامة للمجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية دافعاً أساسياً للوحدة. ولا يخفى أن الوحدة في هذا الجانب تكتسب لها صبغة سياسية. ولهذا يشار إليها تحت شعار الوحدة السياسية للأمة الإسلامية أو المجتمع الإسلامي، لأن مثل هذه الوحدة تتحقق بدافع المصلحة العامة.
3 – مصالح الإسلام والشرع المقدس
من السمات الأخرى للوحدة في الإسلام، مراعاة (مصالح الإسلام) و(الشرع المقدس). بمعنى لابد من صيانة الإسلام والقوانين والأحكام الإسلامية والوطن الإسلامي وكل ما يتعلق بالإسلام. وفي هذا الصدد تعد وحدة المسلمين واتحادهم من الضروريات الأولية. إذ أن الوحدة التي لا تؤدي لصيانة السيادة الإسلامية أو قوانين الإسلام والوحي، لا تجسد الوحدة الحقيقية المنشودة التي يتطلع إليها الإمام الخميني. فالهدف الأساس هو صيانة الإسلام، وما الوحدة إلا وسيلة لتحقيق ذلك.
يقول سماحة الإمام في هذا الصدد:
إننا على استعداد للدفاع عن الإسلام والبلاد الإسلامية وعن استقلالها في جميع الأحوال.. وأن برنامجنا هو برنامج الإسلام ووحدة كلمة المسلمين واتحاد الدول الإسلامية وتحقيق الأخوة مع كافة أبناء الطوائف الإسلامية.(19)
وهذا يعني أن المسلمين كافة، وبغض النظر عن انتمائهم العرقي والقومي، هم أعزاء ومحترمون من وجهة نظر الإمام الخميني.. فالأمر الهام هو قبول كلمة الإسلام واعتبار كلمة التوحيد شعاراً لهم. ومثل هذا يحتم عليهم الاتحاد من أجل صيانة كيان الإسلام وكرامة الشعوب الإسلامية:
إننا نحرص على عزة وكرامة أبناء الأمة الإسلامية، سواء كانوا من الترك والعرب والعجم، ومن أي مكان كانوا، من أفريقيا أو أميركا.(20)
سيادة الإسلام وعزة المسلمين من الموضوعات الأخرى التي تتبلور الوحدة من أجلها. إذ أن التفرقة والتباعد بين المسلمين مدعاة لضعفهم وإذلالهم وهزيمتهم وتسلط الأعداء عليهم.
ومن هنا ينظر الإمام الخميني إلى تعاسة المسلمين بأنه نتيجة الاختلاف والتفرقة السائدة فيما بينهم، وان السبيل لتحقق سيادتهم وكرامتهم والذود عن الحقيقة وصيانة الإسلام الأصيل، يكمن في وحدة المسلمين واتحادهم:
إن تعاسة المسلمين إنما هي وليدة هذه التفرقة السائدة بينهم.. فلتتضامن الشعوب الإسلامية وتضغط على حكوماتها للكف عن الاختلاف والفرقة، والامتناع عن دعم مصالح الأجانب.(21)
إن الأخوة الإسلامية التي تجسد التعبير الحقيقي والأصيل للوحدة، تعد من مستلزمات تحقق شوكة الإسلام وبقاءه واستمراره. فبالأخوة والوحدة يتم تذليل مشاكل المسلمين، وحينها ليس بوسع أية قوة مواجهتهم والتحرش ببلدانهم.. في الحقيقة أن الوحدة تمثل العلاج الرئيسي لآلام المجتمعات الإسلامية:
إنني آمل أن تتحقق بين الدول الإسلامية الأخوة الإسلامية حسبما أمر القرآن بذلك. فإذا ما تحققت مثل هذه الأخوة بين البلدان الإسلامية، ستتشكل قوة عظمى ليس بوسع أية قوة في العالم مواجهتها.(22)
بناء على ذلك، فان مصالح الإسلام تشكل دافعاً للوحدة، وأن محور وأساس مثل هذه الوحدة يكتسب معناه في ظل صيانة الإسلام والحفاظ على كيانه، ومواصلة الدعوة الإسلامية ونشرها في العالم. فصلاة الجمعة والجماعة، واعلان البراءة من المشركين في مراسم الحج، والاعلان عن اسبوع الوحدة، واليوم العالمي للقدس، كل ذلك من أجل مصالح الإسلام والشريعة الإسلامية، مما يعني التخلي عن المصالح الشخصية والفئوية والوطنية والقومية – أي المصالح العامة للدولة الإسلامية – من أجل مصالح الإسلام العليا.
4 – توحيد الكلمة والعقيدة
إن ماهية الوحدة تتضح من خلال مفهوم التوحيد في العقيدة، أو بتعبير آخر (توحيد الكلمة) أو (توحيد المعتقد). وفي ضوء ذلك ثمة (كلمة واحدة) و(رأي واحد) و(عقائد واحدة) و(رؤية كونية واحدة)، يلتزم بها الجميع. وان مثل هذه الوحدة سوف تشكل دافعاً لنمو المجتمع وتقدمه وتكامله، وبوسعها أن تحقق المدينة الفاضلة والحكومة المنشودة. وعلى حد قول الإمام الخميني (قدس سره):
إن أحد الأهداف الكبرى للشرائع السماوية والأنبياء العظام – سلام الله عليهم – يتمثل في توحيد الكلمة والعقيدة، والذي يشكل بحد ذاته هدفاً مستقلاً ووسيلة لتقدم الأهداف الكبرى، وذا تأثير كبير في تأسيس المدينة الفاضلة.(23)
فإذا ما تسنى تشكيل المجتمع الفاضل في صدر الإسلام وتمكن المسلمون من فرض سيطرتهم على رقعة كبيرة من البلاد التي كانت معروفة يومئذ، فإن ذلك كان بفضل وحدة الكلمة والعقيدة. وعلى حد قول الإمام الخميني، أنه نتيجة لوجود شمة من عبير الوحدة والاتحاد الذي كان يعم اجواء الأخوة بين المسلمين. فمثل هذه الوحدة تتشكل حول رؤية كونية مشتركة، وتستوجب تكاتف المسلمين وتآزرهم بصفتهم أصحاب هذا الدين والرؤية الكونية الموحدة:
إذن فمن الضروري لكل مسلم غيور متدين أن يعمل على صيانة نفسه من الفساد، وأن يصون أهل الدين أنفسهم من النفاق، والحفاظ على حوزة المسلمين وصيانة الوحدة والأمة، وترسيخ عقد الأخوة وحفظها من هذه الرذيلة (إثارة الفرقة).(24)
بناء على ذلك، ان الاختلاف والفرقة والازدواجية في التعامل والرؤية والمعتقدات، أمر مذموم من وجهة النظر الدينية والأخلاقية. بيد أن وحدة الكلمة والمعتقد أمر محبب ومنشود.
وفي هذا الصدد كان الإمام الخميني يعتبر تشتت الكلمة والتباعد والتفرقة من الذنوب الكبيرة، وكان يؤمن بأن المسلمين مكلفون بالتعارف والتوادد والتآخي والتواصل والاحسان فيما بينهم، والعمل معاً على طريق تحقق وحدة الصف ووحدة الكلمة. وفي هذا الصدد يقول سماحته:
المسلمون مكلفون بالمودة والأخوة والتواصل والاحسان إزاء بعضهم البعض. ولا يخفى أن كل ما يرسخ هذه المعاني إنما هو مرغوب ومحبب. وان الله يبغض كل من يحاول إعاقة التواصل وفسخ عقد الأخوة وإيجاد الفرقة بين المسلمين، ويعتبر ذلك يتعارض مع الأهداف الإسلامية الكبرى. فإذا ما شاعت الموبقة بين الناس فانها تقود إلى الحقد والحسد والبغض والعداوة، وتنمي جذور الفساد في المجتمع، وتنبت شجرة النفاق والازدواجية فيه، وتدعمها وتقويها، وبالتالي هدم وحدة المجتمع وتماسكه، واضعاف قاعدة التدين، وانتشار الفساد وقبحه.(25)
5 – وحدة الفعل، حصيلة وحدة العقيدة
من وجهة نظر الإسلام تعتبر العقيدة السراج والمفتاح للتحرك والعمل. فمن دون العقيدة لا معنى للعمل. ذلك أن كل شؤون الإنسان تبدأ بالنية (إنما الأعمال بالنيات). فإذا ما توافرت النية يكتسب العمل مفهومه ومعناه. كما أن النية تبنى على أساس المعرفة والرؤية الكونية والنظرة الشمولية التي يتمتع بها الإنسان.
بناء على ذلك، وفي ضوء توجيهات الدين الإسلامي، نبدأ من رؤية كونية واحدة لنصل إلى عمل واحد. وعليه فان وحدة الكلمة، أو التوحد في العقيدة والتصور والكلام، هو الذي يرشدنا إلى وحدة العمل:
لنسعَ على طريق الوحدة الحقيقية، التي هي من ضرورات الأمة الإسلامية وموضع اهتمام الأنبياء وقد امر بها الله تبارك وتعالى، ونعمل على تحقيقها. ولا يخفى ان تحقيق هذه الوحدة بين طبقات الشعب والشعوب المتعارفة، اسهل بكثير من تحقيقها بين اوساط الطبقات الراقية – أو ما يصطلح عليها بالطبقات الراقية - .(26)
وبشكل عام تعد وحدة الإسلام أساس ومبنى وحدة العمل من وجهة نظر الإمام الخميني. وهذا يعني أن الوحدة تكتسب مصداقيتها من خلال التنسيق والانسجام بين العقيدة والعمل. فإذا كنا نتحلى بالوحدة على صعيد العقيدة والكلمة، فلا معنى لافتقادنا للوحدة في العمل وفي الانشطة السياسية والاجتماعية. وعلى حد قول الإمام الخميني:
الإسلام لا يعبأ بأمور من قبيل العرق والفئة والجماعة واللغة وأمثال ذلك.. الإسلام للجميع ولصالح الجميع. ونحن أخوة لكم بنص القرآن وبحكم الإسلام ولسنا بمعزل عن بعض.. ليست هناك أية عداوة. الجميع أخوة. الجميع مسلمون. الجميع اتباع القرآن واتباع الرسول الأكرم (ص).(27)
6 – الجماعة والإمداد الغيبي
إن المقولة المعروفة (يد الله مع الجماعة)، إنما هي مستلهمة من الأحاديث الواردة عن ائمة الإسلام. فعلى سبيل المثال، يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع): (فان يد الله مع الجماعة وإياكم والفرقة).
إن هذا النوع من الأحاديث يؤكد على أن السنن الإلهية والقانون الإلهي الحاكم على هذا الكون يدعم ويؤيد مفهوم التكاتف والتآزر والتعاضد بين الشرائح والفئات، بأن يتحول الفرد إلى الجماعة، وتتحول النفس الواحدة إلى اجتماع، ويتطلع الاجتماع والجماعة إلى هدف واحد وطريق واحد.
أجل، القانون الإلهي الحتمي يؤكد على أن الجماعة لصالح الفرد والاجتماع. بيد أن التفرقة والتشتت لن ينتج عنهما سوى الهزيمة. ولهذا ورد تعبير (يد الله)، التي هي مظهر قوته وقدرته، مقروناً مع الجماعة.
وفي هذا الصدد يؤكد الإمام الخميني كثيراً على العلاقة المباشرة بين الاجتماع والوحدة وبين النصر والنجاح والموفقية في الحياة، ويعتبر ذلك بمثابة قاعدة عقلية وشهودية وشرعية:
غير أن يد الله مع الجماعة.. الله تبارك وتعالى مع الجماعة. انه تعالى يقف إلى جانبهم ويساندهم. وقد ادركنا ذلك وشعرنا به.. لقد لمسناها عن كثب.. الله كان سنداً للجماعة الإيرانية التي تكاتفت وتآزرت فيما بينها. وهكذا الأمر الآن أيضاً.(28)
ويقول سماحته في مكان آخر:
عندما التقى الجميع معاً، فان يد الله مع الجماعة.. عندما تآزرت الجماعة فيما بينها كان الله تبارك وتعالى سنداً لها.(29)
بل أن الإمام الخميني يعتبر الاجتماع مقدساً بحد ذاته، والجماعة القائمة على التوحيد والحركة الإلهية، (يد الله) أي قدرة الله تعالى. بمعنى أن التجمع في سبيل الله وعلى طريق الحق والعدالة، إنما هو يد إلهية وقدرة ربانية باستطاعتها أن تهزم أية قوة أخرى:
كل التحرك كان تحركاً إلهياً.. أنتم كنتم تجسدون يد الله.. الجماعة الإيرانية كانت تمارس نشاطها معاً بصوت واحد.. كانوا يد الله.(30)
إن هذه السنة الإلهية الممثلة في مضاعفة قوة الجمع مقارنة بقوة الفرد، نجد مصاديقها في سائر الموجودات أيضاً نظير قطرات الماء التي تتحول إلى سيل. وبطبيعة الحال أن مثل هذا الموضوع يحظى بأهمية خطيرة ومصيرية بالنسبة للإنسان الذي هو اشرف المخلوقات ويتمتع بالعقل والإرادة. ذلك أن صلاح الدين والدنيا بالنسبة للمجتمعات البشرية رهن الوحدة والاتحاد والتضامن بين أبنائها. وعلى حد قول الإمام الخميني:
إن القضية التي تهتمون بها، ألا وهي قضية تحقيق التضامن والانسجام بين كافة المؤسسات، قضية هامة للغاية.. فلا بد لكم من الاقتناع بأن صلاح ديننا وصلاح بلادنا يكمن في أن نعمل معاً ونتطلع إلى هدف واحد. لأن الاختلاف من عمل الشيطان. فالرحمان بعيد عن الاختلاف.(31)
ولهذا نجد في أحاديث الرسول الأعظم (ص): (الجماعة رحمة، والفرقة عذاب). (32)
لا شك أن كل عقل سليم يرفض الاختلافات المزاجية الواهية والمزعومة، التي تعتبر بحق من المنكرات الكبرى التي تهدد الحياة الاجتماعية والمدنية، وتعد عاملاً مهماً في هزيمة المجتمع وانحطاطه، وتتنافى تماماً مع صلاح الدين وخير الدنيا. في حين تعتبر الوحدة والاتحاد، خاصة في المراحل الحساسة والخطيرة، ضرورة ملحة وعامل بناء يقود إلى النجاح وخير الدنيا وصلاح الآخرة. وعليه فالعقل يحكم بأن الوحدة ضرورة فطرية للحفاظ على الإنسان وصيانة المجتمع الإنساني وبقائهما واستمرارهما.
7 – التكليف الإلهي والشرعي (تقديس الوحدة)
يرى الإمام الخميني بأن مراعاة الوحدة والاتحاد تكليف شرعي. وان مثل هذا التكليف يكتسب صفة الوجوب ويصبح فرضاً على الجميع عندما تتهدد المصالح العامة للأمة والمجتمع. حتى أن سماحته يعتبر غياب الوحدة بمثابة نوع من (الانتحار الجماعي):
نحن اليوم مكلفون، أينما كنا ولأية فئة إنتسبنا، بتجنب الاختلاف والتمسك بالوحدة الإسلامية التي هي موضع تاكيد الكتاب والسنة، وأن نجعل كلمة الحق هي العليا وكلمة الباطل هي السفلى.. ففي مثل هذه المرحلة الحساسة التي تتهدد المخاطر بلدنا والإسلام العزيز، ثمة مسؤولية خطيرة وجسيمة تقع على عاتق الجميع فئات وأفراداً، إذ أن التقاعس والتهاون في الوقت الحاضر والاختلاف وتشتت الكلمة، إنما هو بمثابة انتحار وإهدار لدماء أبناء الإسلام.(33)
وفي موضع آخر يعتبر سماحته الاتحاد والوحدة أمراً إلهياً يعد التخلف عنه معصية، مستشهداً بالآية الكريمة (واعتصموا بحبل الله)، ذلك أنه بالوحدة والاعتصام الجماعي بالحبل الإلهي يتحقق النصر والتقدم والتكامل. فيما تقود الفرقة والتشتت إلى هزيمة الأمة وفنائها الحتمي:
لقد أمر الإسلام وأوصى قائلاً: ((واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)). فلابد من أن يتعاضد ويتآزر الجميع - بمختلف توجهاتهم – ويعتصموا بحبل الله، وأن يتوجهوا إلى الله العظيم. ينبغي أن نتوجه إليه جميعاً. وان التخلف عن هذا الأمر الإلهي يعد ذنباً ومعصية.(34)
كما أن سماحته يعتبر التباعد والتشتت خيانة للإسلام أحياناً، لأنهما يوجدان خللاً في قدرة الإسلام ويصبحا سبباً في هزيمة الإسلام والمسلمين.. لقد طالبنا الإسلام بالاتحاد وأمرنا بوحدة الكلمة، وعليه لابد لنا، ليس اجتناب الفرقة فقط، وإنما وجوب محاربة مثيريها لئلا يبقى مكان لهم بين أفراد المجتمع. ذلك لأن مثيري الفرقة خونة ولابد من التصدي لهم، وعدم السماح لهم بزعزعة صفوف المسلمين:
لا تسمحوا للخونة باختراق صفوفكم المتراصة.. لا تسمحوا لهؤلاء بإثارة الفرقة وتشتيت صفوفكم بذرائع واهية.. حاولوا التصدي لمظاهر الفرقة.. اعملوا على خدمة الإسلام.. لقد أمرنا الإسلام بوحدة الكلمة، وان من يعمل على إثارة الفرقة فهو خارج عن الإسلام.(35)
يرى الإمام الخميني بأن الشريعة الإسلامية قد حرصت على لفت انظار المسلمين إلى أن التفرقة رمز الهزيمة، وان الاتحاد سرّ الانتصار. والاجتماع من أجل الله هو المنجي، والوحدة أمر إلهي، والتفرقة أمر شيطاني. ولا بد لنا – جميعاً – من الانضواء تحت لواء التوحيد والتوجه إلى الله كي يحالفنا النجاح والتوفيق. ويكتسب ذلك أهمية أكبر عندما يكون هناك عدو مشترك. إذ أن العقل والشرع على حد سواء يحكمان في مثل هذه الظروف بضرورة صيانة الوحدة والاتحاد وتعزيزها أكثر فأكثر، والحرص على اجتناب التفرقة والتشتت.
8 – الأخوة الإسلامية (الوحدة المبنية على الأخوة الإسلامية)
في ضوء الرؤية القرآنية يعبر عن العلاقة القائمة بين المؤمنين بـ (الإخوة)، حيث يذكر القرآن الكريم (إنما المؤمنون أخوة).(36) واستناداً إلى مبدأ الأخوة بين المسلمين، قال رسول الله (ص) للمهاجرين في مكة: (إن الله عز وجل قد جعل لكم اخواناً وداراً تأمنون بها)(37). كما أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد دخول يثرب، آخى بين المهاجرين والانصار. فقد ورد في سيرة ابن هشام بأنه (صلوات الله وسلامه عليه) وجّه خطابه للمسلمين قائلاً: (تآخوا في الله أخَوَيْن أخوين). وبناء على ذلك عقد عهد الاخوة شخصياً مع الإمام علي (ع)، فيما أصبح المسلمون اثنان اثنان أخوة فيما بينهم. فعلى سبيل المثال اصبح حمزة عم النبي (ص) أخاً ليزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب أخاً لمعاذ بن جبل. ويعبر عن هذه الأخوة بأخوة الإيمان أو الاخوة الإسلامية، التي تجسد أبهى تجليات الوحدة، أي مراعاة الوحدة في مختلف شؤون الحياة الاجتماعية. ولا يخفى أن مثل هذه الوحدة تستمد وجودها من الألفة بين القلوب والمودة.
وعليه فالوحدة الحقيقية تتسم بعدة سمات ويطلق عليها بالاخوة الإسلامية أو أخوة الإيمان:
1-اجتماع الناس وتآزرهم على طريق واحد لتحقيق أهداف مشتركة.
2-الاعتصام بحبل الله، وإلهية أسس الوحدة ومعاييرها.
3-الألفة بين القلوب لدى أفراد المجتمع.
4-التوحد والإخلاص بين أفراد المجتمع.
الإمام الخميني بدوره يؤكد، استناداً إلى آية الاخوة – إنما المؤمنون أخوة -، على أن السبيل لتحقيق الاستقلال والتحرر من التبعية الاجنبية يتمثل في تحقق مثل هذه الأخوة.. كما أن صيانة الثورة واستمراريتها رهن عهد الأخوة أو الوحدة الحقيقية المبنية على الألفة والمودة بين أبناء المجتمع، ويعد ذلك بحد ذاته تكليفاً دينياً وشرعياً:
إن هؤلاء الذين تغير كل شيء لديهم، ويرون من واجب كافة فئات الشعب الذود عن الإسلام وصيانته، تقع على عاتقهم مسؤولية الحفاظ على الجمهورية الإسلامية. ويعد هذا التكليف من أعظم التكاليف في الإسلام، ولا يتحقق ذلك إلا في ظل التفاهم والتآخي بين أبناء الشعب جميعاً. إذ ان (المؤمنون أخوة)، فإذا ما تمت صيانة الأخوة الإيمانية في مختلف انحاء البلاد وأضحى كل فرد لا يهتم بأموره الشخصية ويعمل الجميع معاً من أجل الأهداف المشتركة، فلن يجرؤ أحد على التعرض لهذا البلد.(38)
وعليه فالأخوة تعني في الأصل غض الطرف عن المصالح الشخصية من أجل المصلحة العامة. وما لم يتخل الإنسان عن مصالحه الشخصية ويذوب في المجتمع ويحرص على المصلحة العامة، لن تجد الاخوة والوحدة معناهما الحقيقي.
وفي هذا الصدد يقول الإمام الخميني:
إن مثل هذه الاخوة إنما هي تجسيد لإحدى الصفات التي نعتنا بها القرآن الكريم.. فلابد للمسلمين والمؤمنين التواصل بنوايا أخوية حسنة، وأن مثل هذا موجود ولله الحمد.. لابد لنا من الحفاظ على هذه النعمة الإلهية، إذ أن الله تعالى عدّها نعمة – وهي من أكبر النعم -. فلابد لنا من صيانة هذه النعمة. وطالما حافظنا على هذه النعمة الإلهية فاننا في مأمن من جميع الشياطين. وإذا ما فقدنا – لا سمح الله – يوماً هذه النعمة سوف تتضرر بلدنا حينئذ.(39)
9 – الوحدة شرط تداوم الرحمة وتحقق السعادة الأبدية
الوحدة والاتحاد مدعاة لنـزول الرحمة الإلهية واستمرارها، ومفتاح الجنة والسعادة الأخروية. ففي ظل الوحدة تفيض الرحمة، ومع الاختلاف والفرقة تغلق باب الرحمة. وفي هذا الصدد يقول الإمام الخميني:
بما أن يد الله دخيلة في هذا الأمر، لذا لابد لكم ولنا والجميع من العمل بنحو لئلا يغلق باب الرحمة وترفع هذه اليد عن رؤوسنا. فحتى الآن كنّا معاً ويد الله مع الجماعة. كان الجميع يعمل من أجل الله، وقد أحاطنا الله تبارك وتعالى بعنايته. ومن الآن فصاعداً ينبغي أيضاً أن نتخلى ولو مؤقتاً عن همومنا الشخصية..(40)
ومثلما تتبع الوحدة الرحمة والأمن والاستقرار والأهم من كل ذلك صلاح المجتمع وسعادته. كذلك يوجد الاختلاف والفرقة مختلف أنواع الفساد. وعلى حد قول الإمام الخميني:
... كونوا متكاتفين ومتعاضدين ولا تتفرقوا، لأن الفرقة مصدر كل المفاسد. كما أن التمسك بالله منشأ الصلاح والسعادات كلها.(41)
في ضوء كل ذلك ندرك بأن المنافع الشخصية تحل محل المصلحة العامة ومصالح الشريعة في ظل الاختلاف والفرقة. وتتباين المنافع الشخصية من فرد لآخر وفئة لأخرى. ومن الطبيعي أن ينشب النـزاع والفساد وترتكب الجرائم من أجل الاستحواذ على أكبر حجم من المنافع. في حين أنه في ظل الوحدة يكرس الاهتمام بالمصلحة العامة باعتبارها مصلحة الجميع أو المصلحة الشرعية أو كلاهما، وعندها لن يبقى مبرر للفساد والجريمة والهزيمة والتقاعس والتهاون:
إذا ما كانت الاخوة محور الاهتمام فيما بيننا فسوف يتحقق الانسجام. ولو عمل المسلمون في مختلف انحاء الأقطار الإسلامية بهذا الأمر الإلهي، حيث سنّ الله عهد الأخوة فيما بينهم، لما عانوا من الضعف والوهن، ولما وجدت لهم كل هذه الآلام.(42)
والأهم من كل ذلك أن سماحة الإمام كان يعتبر الجنة والسعادة حصيلة الوحدة والاتحاد والتضامن بين المؤمنين والاخوة المقرونة بالاعتصام بحبل الله. وكان يوجّه خطابه إلى المؤمنين مستلهماً آية الأخوة:
... حاولوا التأمل في هذه الآية.. اعتصموا بحبل الله جميعاً.. كونوا أخوة كي تكونوا أخوة في الجنة أيضاً على سرر متقابلة. فإن لم تكونوا أخوة هنا فليس من المعلوم أن تكون الجنة نصيبكم هناك.(43)
10 – الحكومة وسيلة لتحقق الوحدة
مثّلت الحكومة الإسلامية أحد أبرز الموضوعات التي حظيت باهتمام الإمام الخميني وكرس لها جانباً كبيراً من نشاطه الفكري والعملي، وسعى إلى تحقيقه مع انتصار الثورة الإسلامية.
طبعاً الحكومة من وجهة نظر الإمام الخميني ليست أكثر من مؤسسة اجرائية ووسيلة تنفيذية ولا تعتبر هدفاً بحد ذاتها. وهذا يعني أن الدافع لتحقيقها يكمن في تحقق أهدافها السامية. ولعلّ من أبرز هذه الأهداف: تحقيق القسط والعدل في المجتمع، وتطبيق القوانين والنظم الإسلامية، وصيانة وحدة المجتمع والأمة الإسلامية. وفي هذا الصدد توضح الصديقة الزهراء (ع) في خطبتها الشهيرة: (الإمامة من أجل حفظ النظام وإرساء الاتحاد بين المسلمين بدلاً من الفرقة والتشتت).
ويرى الإمام الخميني بأن تحقق الجمهورية الإسلامية (بصفتها حكومة لائقة ومنشودة) كان حصيلة وحدة الشعب الإيراني واتحاده.. ففي الحقيقة كانت الوحدة بمثابة عامل أساسي في تشكيل الحكومة. فيما شكلت الحكومة عنصراً ضرورياً لصيانة الوحدة. فالاثنان متلازمان.. حكومة العدل الإلهي وليدة الاعتصام بحبل الله وعاملاً في صيانة هذا الاعتصام ودوامه. وعلى حد قول الإمام الخميني أن الوحدة ضرورية لصيانة النظام، والحكومة لازمة لتحقق الوحدة.
وعليه يتضح مما ذكر، بأن ماهية الوحدة تتشكل – حسبما يرى الإمام الخميني - من عناصر عديدة أبرزها: الاعتصام بحبل الله، والمصلحة العامة، ومصلحة الإسلام، ووحدة الكلمة، والرؤية الكونية الموحدة، والكلمة الواحدة، والعمل في ضوء الرؤية الكونية، والهدف الإلهي للوحدة.
وفي ضوء ذلك فإن نبذ الفساد وتقديس الوحدة، إنما هو بمثابة تكليف إلهي وشرعي – الاخوة –ونوعاً من الألفة والتوحد والسعادة وبلوغ الجنة وتحقق السعادة الأبدية.
المصدر:
- القرآن الكريم.
- ابن أبي الحديد المعتزلي، ابو حامد عبد الحميد بن هبة. شرح نهج البلاغة.
- ابن هشام، سيرة ابن هشام، بيروت، دار الكتاب العربي.
- الإمام الخميني، روح الله. الرسائل.
- الإمام الخميني، روح الله. الأربعون حديثاً.
- الإمام الخميني، روح الله. صحيفة الإمام، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني.
- بي آزار شيرازي، عبد الكريم. توحيد الكلمة.
- الحر العاملي. وسائل الشيعة لتحصيل مسائل الشريعة. بيروت، دار احياء التراث العربي.
- دهخدا، علي أكبر. لغت نامه دهخدا.
- راهنماي انسانيت. مرتضى فريد تنكابني.
- المجلسي، محمد باقر. بحار الأنوار.
- موثقي، سيد احمد. استراتيجية الوحدة في فكر الإسلام السياسي.
- نهج الفصاحة. جمع ابو القاسم باينده.
الهوامش:
1. آل عمران: 103
2. صحيفة الإمام، ج6،ص244
3. الإمام الخميني 1368هـ.ش، ج2، ص174 – 200
4. آل عمران:103
5. صحيفة الامام،ج9،ص131
6. الحجرات: الآية 13
7. صحيفة الإمام، ج15: ص520 – 521
8. آل عمران: الآية 85
9. صحيفة الإمام، ج11، ص381
10. الأنبياء: الآية 92
11. صحيفة الإمام، ج18، ص91
12. صحيفة الإمام، ج17، ص404
13. صحيفة الإمام، ج7: 64
14. صحيفة الإمام، ج8، ص334
15. صحيفة الإمام، ج8، ص334
16. صحيفة الإمام، ج8، ص334
17. صحيفة الإمام، ج13، ص20
18. صحيفة الإمام، ج7، ص204
19. صحيفة الإمام، ج1،ص336
20. صحيفة الإمام، ج1،ص381
21. صحيفة الإمام، ج4، ص445
22. صحيفة الإمام، ج8، ص88
23. الإمام الخميني، ص309 – 310
24. الإمام الخميني، ص311
25. الإمام الخميني، ص310 – 311
26. صحيفة الإمام، ج14، ص152
27. صحيفة الإمام، ج9، ص359
28. صحيفة الإمام، ج6، ص313
29. صحيفة الإمام، ج7، ص107
30. صحيفة الإمام، ج12، ص356
31. صحيفة الإمام، ج15، ص361 – 362
32. نهج الفصاحة: 433
33. صحيفة الإمام، ج4، ص311
34. صحيفة الإمام، ج7، ص99
35. صحيفة الإمام، ج7، ص130
36. الحجرات: الآية 10
37. سيرة ابن هشام، ج2، ص109
38. صحيفة الإمام، ج17، ص435
39. صحيفة الإمام، ج16، ص173
40. صحيفة الإمام، ج8، ص77
41. صحيفة الإمام، ج8، ص316
42. صحيفة الإمام، ج11، ص491
43. صحيفة الإمام، ج15، ص476