بعد إدراك الجمال و الظرافة و الحقيقة يستخرج الفنان منها بروحه الفنية و بذلك المصباح الفني المتقد في داخله ألف نقطة أدق من الذرة مما قد لا يستطيع الناس غير الفنانين أحياناً إدراك حتي نقطة واحدة منه، و يعبر بذلك عن الدقائق و الحقائق، و سيكون هذا هو الفن الواقعي الحقيقي الناجم عن إدراك و انعكاس و تعبير.
الواقع أن الفن موهبة إلهية و حقيقة جد فاخرة. و من الطبيعي أن يشعر الشخص الذي منح هذه الموهبة من قبل الله - ككل الثروات و الكنوز الأخرى - بأعباء المسؤولية، أي إن العطايا الإلهية مصحوبة بأداء التكاليف. ليس الفن من الثروات التي تستحصل كلها بكدّ اليمين و عرق الجبين. فما لم تتوفر فيكم القريحة و الموهبة الفنية ستبقون تراوحون في الخطوة الأولي مهما بذلتم من جهد. تلك القريحة ليست إنجازكم و لا هي من فعلكم، بل منحوها لكم. يمنح الله الإنسان جميع النعم حتي لو كانت قنواتها المجتمع و الأب و الأم و البيئة و الأمور الأخري. لقد بذلتم جهداً لكن الفرصة و الهمّة لبذل الجهد أيضاً مما منحه الله لكم حتي تستطيعوا رفع الفن لمرتبة سامية في أنفسكم.
يقول البعض إن الكلمة الأولي تناقض الكلمة الثانية في تعبير « الفن الملتزم ». الفن هو الشيء القائم علي الخيال الحر للإنسان، و الملتزم معناه المقيد المكبل، فكيف يجتمع هذان؟ هذا تصور، و هو طبعاً ليس بالتصور الصائب. قضية مسؤولية الفنان و التزامه تعود قبل كون الفنان فناناً إلي كونه إنساناً. فالفنان بالتالي هو إنسان قبل أن يكون فناناً. و الإنسان لا يمكنه أن لا يكون مسؤولاً. المسؤولية الأولي للإنسان هي مسؤوليته حيال الناس الآخرين. مع أن الإنسان ملتزم أيضاً أمام الطبيعة و الأرض و السماء إلا أن مسؤوليته الكبري هي حيال الآخرين. و للفنان في الوقت ذاته و بسبب خصوصيته المميزة جداً التزام مستقل غير ذلك الذي ذكرناه. الفنان مسؤول علي صعيد شكل فنه و قالبه و كذلك علي صعيد مضمون فنه.
الإنسان ذو القريحة الفنية ينبغي أن لا يكتفي بالمستويات الدنيا. هذا نوع من الالتزام. الفنان الكسول و عديم السعي و الذي لا يبذل جهداً في سبيل رفعة عمله الفني و تفجير الإبداع لم يلتزم في الواقع بمسؤوليته الفنية حيال الشكل و القالب. علي الفنان أن يسعي دوماً. طبعاً قد يصل الإنسان أحياناً إلي حيث لا يستطيع السعي أكثر من ذلك، هذا لا نقاش فيه. لكنه عليه السعي بمقدار استطاعته لرفع مستوي قالبه الفني. هذا الالتزام حيال القالب لا يتأتي من دون شعور بالوجد و العشق و المسؤولية، و هذا الوجد و العشق بدوره مسؤولية و هو بمثابة اليد القوية التي تفرض علي الإنسان فعل شيء و لا تسمح للكسل و الارتخاء أن تقعده عن الإنتاج.
بالإضافة إلي ذلك هناك الالتزام حيال المضمون. ما الذي نريد تقديمه و عرضه؟ إذا كان الإنسان محترماً و عزيزاً كان قلبه و ذهنه و فكره أيضاً عزيزاً محترماً. لا يمكن منح المتلقي أي شيء لمجرد أنه جالس للاستماع لكلامنا. يجب أن ننظر ما الذي نريد أن نعطيه له. الهمّ الذي يحمله بعض المخلصين في نطاق القضايا الفنية هو أن لا ننسف الفضيلة و لا ننتهك الأخلاق بذريعة حرية الفن و حرية الخيال. هذه المسألة علي جانب كبير من الأهمية. إذن الفن الملتزم تعبير صحيح.
علي الفنان أن يلتزم بحقيقة ما. فما هي تلك الحقيقة؟ أما ما هو المستوى الفكرى للفنان كي يستطيع مشاهدة و معرفة كل أو جزء من تلك الحقيقة فهذا موضوع آخر. طبعاً كلما كان مستوى الفكر و الإدراك العقلاني أرفع كان بوسعه منح الإدراك الفني الدقيق جودة أعلى. حافظ الشيرازي ليس مجرد فنان، إنما في كلماته معارف سامية. و هذه المعارف لا تتأتي بمجرد كون الإنسان فناناً إنما لا بد لذلك من رصيد فلسفي و فكري. لا بد من ركيزة أو نقطة انطلاق و أساس فكري رفيع متين يدعم هذا الإدراك الفني و من ثم التعبير الفني.
طبعاً ليس الجميع في مستوي واحد. و ليس من المتوقع أن يكون الأمر كذلك. هذا ما يصدق علي جميع الحقول الفنية، من الفن المعماري إلي الرسم إلي النحت و الأعمال السينمائية و المسرحية و الشعر و الموسيقي و سائر الفروع الفنية.. كلها تستبطن هذا المعنى. تارة تلاحظون فناً معمارياً فيه فكر. و تارة تلاحظون فناً معمارياً فارغاً و عديم الهوية من الناحية الفكرية فهو لا يستند إلى أفكار. هذان المعماران إذا أرادا تشييد بناء فسوف يضعان نوعين من البناء. و إذا تم تسليم مدينة لشخصين من هذا القبيل فسيكون نصفها مختلفاً تماماً عن النصف الثاني. علي كل حال هذا الالتزام مهم و لازم.
لا يمكن ممارسة الفن بغير اكتراث و لاأبالية و بمحفزات متغيرة يومياً و ربما هابطة و غير نظيفة و البقاء في حال شموخ و رفعة، لأن البهجة الموجودة في الفنان - في الفنان بهجة تختلف عن حالات البهجة العادية و لا توجد لدي غير الفنان إطلاقاً - ستوجد فيه بحق حينما يعلم ما الذي يريده و ينشده و ما الذي يريد فعله لكي يشعر بالبهجة و الرضا عبر فنه و ما ينجزه من أعمال فنية. عندئذ ينبغي مراعاة الأخلاق الإنسانية و الفضائل و المعارف الدينية و الإلهية السامية.
أتمنى أن تحظي قيمة الفن - كما هي منزلتها الحقيقة - باهتمام أهل الفن أنفسهم أولاً فيتفطنوا لقيمة البضاعة القيمة التي يمتلكونها، و يحترمونها. و احترامها يكمن في إنفاقها في الموضع المناسب. يقول الإمام السجاد ( عليه السلام ) في حديث له إن الروح و الوجود الإنسانى أثمن الأشياء و لا ثمن له إلا جنة الله الموعودة، فلا تمنحوا أرواحكم لسوي جنة الله. و الفن من أرقى و أغلى ما في الروح البشرية لذا ينبغي أن تثمّن و تنفق في سبيل الله. طبعاً حين نقول أنفقوها في سبيل الله يجب أن لا ينصرف الذهن فوراً إلي الحالة السطحية المُرائية.
الفن الديني هو الفن الذي يستطيع تجسيد و عرض مبادئ الدين الإسلامي و هي طبعاً أرقي المبادئ في الأديان الإلهية. إنها المبادئ التي تضمن سعادة الإنسان و حقوقه المعنوية و رفعته و تقواه و ورعه و تكريس العدالة في المجتمع الإنساني. الفن الديني لا يعني بحال من الأحوال التسطيح و القشور و الرياء الديني و هو لا يتشكل ضرورة بالمفردات و الكلمات الدينية. قد يكون الفن دينياً مائة بالمائة لكن الكلمات المستخدمة فيه عرفية و غير دينية. ينبغي عدم تصور أن الفن الديني هو الذي يصور قصة دينية بالضرورة أو الذي يتحدث عن مسألة دينية كرجال الدين أو ما شاكل. الفن الديني هو الذي يستطيع نشر المعارف التي اضطلعت بنشرها جميع الأديان - و الدين الإسلامي الحنيف بالدرجة الأولي - و أزهقت أرواح طاهرة في سبيل نشر هذه الحقائق، و تخليدها و تركيزها في الأذهان.
هذه المعارف هي المعارف الدينية السامية. هذه حقائق تحمّل الأنبياء الألهيون أعباء ثقيلة لنشرها في الحياة الإنسانية. لا يمكن أن نقعد هنا و نحكم بخطأ خيرة الشخصيات في العالم و هم المصلحون و الرسل و المجاهدون في سبيل الله و لا نكترث لهم. الفن الديني ينشر هذه المعارف. الفن الديني يطرح العدالة في المجتمع كقيمة حتي لو لم تذكروا اسم الدين و لم تأتوا بأية آية قرآنية و لا أي حديث شريف عن العدالة في عملكم الفني. مثلاً ليس من الضروري أن يرد اسم الدين أو شكله أو رمزه في الحوارات السينمائية أو المسرحية حتي يكون الفن دينياً. لا ، يمكنكم طرح أبلغ الكلام عن العدالة في فنونكم المسرحية و عندها ستكونون قد انجزتم فناً دينياً.
المسألة الثانية التي أود الإشارة إليها هي الفن الثوري. توقعات الثورة من الفن و الفنان تبتني علي نظرة جمالية في الفن و بهذا لن تكون توقعات كبيرة. شعب نزل إلي الساحة بكل كيانه خلال ملحمة دفاعية طالت ثمانية أعوام. سار الشباب إلي الجبهات و فتحوا أذرعهم للتضحية في سبيل القيم التي آمنوا بها. طبعاً هم فعلوا ذلك بدوافع دينية غالباً رغم أن البعض منهم ربما تحرك و ضحّى في سبيل الدفاع عن الوطن و حدود البلاد. و الأمهات و الآباء و الزوجات و الأبناء و الذين عملوا خلف الجبهات صنعوا الملاحم بشكل آخر.
راجعوا مذكرات ثمانية أعوام من الدفاع المقدس و انظروا بعين الفن لحال هذا المجتمع و وضعه، فهل ستجدون أجمل منه؟ إنكم حينما تواجهون تضحية الإنسان في أرقي الآثار الدراماتيكية في العالم تعجبون بها و تثنون عليها. حينما تشاهدون فيلماً أو تستمعون للحن أو تشاهدون لوحة رسم عن حياة الشخصية الثورية الفلانية - جاندارك مثلاً - أو الجندي المضحي من البلد الفلاني فلن تستطيعوا عدم الإعجاب بعمله في قلوبكم و ضمائركم. و قد وقعت آلاف الأحداث الأكبر و الأعظم بعدة مرات مما تجدونه في ذلك الأثر الفني خلال ثمانية أعوام من الدفاع المقدس و في أحداث الثورة ذاتها في بلادكم و بيتكم، أليس هذا بجمال؟ هل بوسع الفن أن يمر بهذه الأمور مرور الكرام و دون اكتراث؟ هذا هو توقع الثورة و هو ليس توقعاً عسفياً أو كبيراً بل توقع قائم علي أسس جمالية فنية؟ الفن هو إدراك الجماليات.
* موقع الزكيّة - بتصرّف