أمهات العظماء:
إن دراسة حياة العظماء في نشأتهم، والتأمل في ظروف تربيتهم العائلية، يكشف في غالب الأحيان عن دور الأمهات في صناعة شخصيات هؤلاء العظماء.
لقد تحدث القرآن الكريم عن نبي الله موسى وظروف ولادته ونشأته، في آيات كثيرة، نقرأ فيها حضوراً فاعلاً لأمه، دون أي إشارة أو ذكر لأبيه عمران، مع تأكيد المصادر التاريخية على وجوده عند ولادة موسى ، وأن عمره آنذاك كان سبعين سنة، كما في تاريخ الطبري والكامل لابن الأثير.[1]
أما نبي الله عيسى ابن مريم ، فلم يكن له أب، وانفردت أمه برعايته وتربيته، وجاء ذكرها بالتعظيم والتقديس في القرآن الكريم، بل خصصت سورة باسمها: سورة مريم.
وينقل عن "نابليون بونابارت 1769-1821م" والذي أسس امبراطورية عظيمة شملت معظم أرجاء أوربا، ينقل عنه قوله: "إن ما توصلت إليه اليوم هو من عند أمي"(2)
وكتب أحد الباحثين: " تستطيع الأم الفاضلة أن تؤدي مهمة مائة أستاذ من أساتذة المدارس. هذا ما قاله الشاعر الانجليزي جورج هربرت، وهذا ما أثبته التاريخ. فجورج واشنطن أول رئيس للجمهورية في الولايات المتحدة الأمريكية، كان قد فقد أباه وهو في الحادية عشرة من عمره، وما كان ليشبَّ على ماشبَّ عليه من رصانة الخلق، وقوة الشخصية، لو لم تكن امه على جانب كبير من الحكمة والاقتدار، وقد تولت تربيته منفردة بعد وفاة أبيه. ويصدق ذلك كثيراً او قليلاً على عدد من أعلام الأدب والعلم والشعر عبر التاريخ. نذكر منهم على سبيل المثال: جوته، وجرين، وشيللر، وبيكون، وارسكني. فلو لا تربية امهاتهم لهم لما احتل هؤلاء مكانتهم بين أعلام المبدعين"[3]
إن كل أم ترغب الخير لولدها، وتتمنى أن يكون متقدماً متفوقاً، عليها أن تعلم أن ذلك رهن بحسن تربيتها، وإتقان رعايتها واهتمامها بتوجيهه، وتهذيب سلوكه.
أين دور الأب؟
لا يمكن إنكار دور الأب، ولا تجاهل تأثيره في تربية الأبناء، والحديث عن دور الأم انما هو باعتبارها الأكثر التصاقاً بالولد، خاصة في الفترة الأولى من عمره، والتي يطلق عليها علماء التربية والنفس، أنها السنوات التأسيسية لتشكيل شخصية الإنسان.
لذلك نجد النصوص الدينية تؤكد على مكانة الأم، وحقها الكبير على الإنسان، فأتعابها وتضحياتها تجاه الولد، اثناء الحمل والولادة والحضانة، لا تقاس بأي جهد آخر، حتى جهد الأب.
ورد عن هشام بن سالم عن ابي عبدالله جعفر الصادق قال: جاء رجل إلى النبي (ص) فقال: يارسول الله من أبرُّ ؟ قال:" أمك." قال: ثم من؟ قال: "أمك." قال: ثم من؟ قال: "أمك." قال: ثم من. قال: "أباك."[4]
وروى انس عن رسول الله قال: " الجنة تحت اقدام الأمهات"[5]
وواضح أن العلاقة بين الطفل والأم خاصة في السنوات الأولى، هي أوثق و أقوى من علاقته مع الاب، بسبب طبيعة دور الأم، لذلك تكون هي الاكثر تأثيراً عليه، وقدرة على صناعة شخصيته.
الوظيفة الأرقى:
تقاس أهمية أي وظيفة بعدة مقاييس من أبرزها ما يلي:
1- أهمية الإنجاز الذي تنتجه الوظيفة.
2- مدى الجهد المبذول في القيام بها، والكفاءة المؤهلة لذلك.
3- نسبة توفير البدائل والخيارات لادائها.
فكلما كان الإنجاز أهم، والجهد المبذول أكبر، والتأهيل المطلوب أرفع، والبدائل أقل، كانت الوظيفة أرقى و أعلى.
على أساس هذه المقاييس فإنه يمكن اعتبار الأمومة أرقى وظيفة في المجتمع البشري، فهي ترتبط بإنتاج الإنسان نفسه، وصنع شخصيته، وذلك إنجاز لا يدانيه أي إنجاز.
أما الجهد الذي تتطلبه مهمة الأمومة من حمل وولادة ورضاعة وحضانة، ففيه درجة قصوى من الخطورة والعناء والمشقة. ويعبرّ القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ) (سورة الأحقاف آية15) وفي آية أخرى (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ)(سورة لقمان آيه14).
كما أن مؤهلات دور الأمومة صفات نفسية فطرية لا يمكن توفيرها بأي ثمن، إنها الحب الحقيقي، والحنان الصادق، والتّحمل للعناء بكل رضا وسرور.
وعلى صعيد توفير البدائل والخيارات فإن من الواضح وجداناً وتجربة أن لا أحد يملأ مكان الأم، ولا يستطيع تقمّص دورها المتميّز.
فالأمومة هي الوظيفة الأرقى، و الأم التي تحسن أداء هذه الوظيفة، لا يمكن تثمين دورها بأي ثمن، ولا تحديد أجرها بأي مقابل، وكل إنسان مطوّق بفضلها، ومهما عمل وقدم لأمه فلن يستطيع مكافأتها. قال رجل لرسول الله :إنّ والدتي بلغها الكبر وهي عندي الآن أحملها على ظهري، واطعمها من كسبي، واميط عنها الاذى بيدي، وأصرف عنها مع ذلك وجهي استحياءً منها وإعظاماً لها، فهل كافأتها؟ قال:" لا لأن بطنها كان لك وعاء وثديها كان لك سقاء، وقدمها لك حذاء، ويدها لك وقاء، وحجرها لك حواء، وكانت تصنع ذلك لك وهي تتمنّى حياتك، وأنت تصنع هذابها وتحبّ مماتها."[6]
ومن المؤسف جداً ما تعيشه أغلب المجتمعات في هذا العصر، من إعلاء شأن الاهتمامات المادية والشهوانية، على حساب النوازع الإنسانية النبيلة، حيث ترّوج بعض الأفكار والتصورات التي تقلّل من قيمة دور الأمومة وتستخف به، في مقابل الإشادة بالأعمال الوظيفية الأخرى، التي تُدفع المرأة للقيام بها، واصبحن بعض النساء يشعرن بالهامشية والتخلف والخجل، إذا كان دورهن متركزاً على القيام بمهمة الأمومة، بينما الوظيفة الأخرى مدعاة للفخر والإعتزاز.
إنه لا مانع من عمل المرأة في أي مجال من مجالات الحياة، لكن لا ينبغي أن يكون على حساب دور الأمومة، ولا يصح أبدا أن يستهان بقيمة هذا الدور.
وكما تطالب المنظمات الإنسانية والتربوية، فإنه ينبغي سّن القوانين والتشريعات، التي تمكّن المرأة العاملة من أداء وظيفة الأمومة المقدسة بالشكل المناسب.
إن الضعف والتقصير في أداء مهام الأمومة، ينعكس سلباً على شخصيات ونفسيات الجيل القادم. فلا بد من تعبئة وتوعية واسعة، تعيد هذه الوظيفة إلى مركز الصدارة في اهتمام إمرأة اليوم.
التربية الصالحة:
إلى جانب إغداق الحنان والعطف، وتقديم الرعاية اللازمة للطفل، يجب أن تهتم الأم بغرس بذور الاستقامة والصلاح في نفسية وليدها، وأن تسعى لإعداده للرقي في مدارج الكمال، إنها بسلوكها وسيرتها تستطيع أن تكون نموذجاً يحرص أبناؤها على الاحتذاء به، ومحاكاته، فاهتمامها بالمعرفة، والتزامها بالخلق القويم، وأداؤها للواجبات الدينية، يخلق في نفوس أبنائها نفس هذه التوجهات، ويدفعهم للأخذ بها.
كما أن محادثة الأم مع الأبناء، وتقديمها النصائح والإرشادات، وشرح حقائق الحياة ومعادلاتها لهم بلغة واضحة رقيقة، يسهم كثيراً في بناء شخصياتهم الواعية الناضجة.
جزى الله الأمهات عنا كل خير، و وفقنا للقيام بواجب بّرهن،و أعان نساءنا على أداء مهام التربية الصالحة. والحمد لله رب العالمين.
* المصدر : مجلة ريحانة في شبكة رافد الالكترونية
[1] الطبري: محمد بن جرير/ تاريخ الطبري ج1 ص271/الطبعة الخامسة 1989م -مؤسسة الاعلمي - بيروت
ابن الاثير:علي الشيباني/ الكامل في التاريخ ج1 ص126 /الطبعة الرابعة 1994م -مؤسسة التاريخ العربي- بيروت
[2] القائمي:الدكتور علي/دور الأم في التربية ص14 الطبعة الاولى 1994م دار النبلاء - بيروت
[3] مجلة العربي-الكويت/عدد 95 ص95
[4] الكليني: محمد بن يعقوب/ الكافي ج2 ص 159
[5] الهندي:علي المتقي/ كنز العمال - حديث رقم 45439
[6] مؤسسة البعثه/ الطفل نشوؤه وتربيته- ص353- الطبعة الاولى 1410هـ - طهران