كان الناس على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) يسّمعون إلى القرآن، ويفهمونه بذوقهم العربيّ الخالص، ويرجعون إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) في توضيح ما يشكل عليهم فهمه، أو ما يحتاجون فيه إلى شيءٍ من التفصيل والتوسّع.
فكانت علوم القرآن تُؤخذ وتُروى عادةً بالتّلقين والمشافهة، حتّى مضت سنون على وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله)، وتوسّعت الفتوحات الإسلامية، وبدرت بوادر تدعو إلى الخوف على علوم القرآن، والشعور بعدم كفاية التّلقّي عن طريق التّلقين والمشافهة، نظراً إلى بُعد العهد بالنبي نسبيّاً، واختلاط العرب بشعوبٍ أُخرى، لها لغاتها وطريقتها في التكلّم والتفكير، فبدأت لأجل ذلك حركة، في صفوف المسلمين الواعين لضبط علوم القرآن، ووضع الضمانات اللاّزمة لوقايته وصيانته من التحريف.
وقد سبق الإمام علي (عليه السلام) غيرَه في الإحساس بضرورة اتخاذ هذه الضمانات، فانصرف عُقيب وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) مباشرةً إلى جمع القرآن.
ففي (الفهرست) لابن النديم (١) ، أنّ عليّاً (عليه السلام) حين رأى من الناس عند وفاة النبي ما رأى، أقسم أنّه لا يضع عن عاتقه رداءه حتّى يجمع القرآن، فجلس في بيته ثلاثة أيّام، حتّى جمع القرآن، وسيأتي البحث عن ذلك في البحث عن جمع القرآن.
وما نقصده الآن من ذلك، أنّ الخوف على سلامة القرآن، والتفكير في وضع الضمانات اللاّزمة، بدأ في ذهن الواعين من المسلمين، عُقيب وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله)، وأدّى إلى القيام بمختلف النشاطات، وكان من نتيجة ذلك (علوم القرآن)، وما استلزمته من بحوثٍ وأعمال.
وهكذا كانت بدايات علوم القرآن، وأُسسها الأُولى على يد الصحابة والطليعة من المسلمين في الصدر الأوّل، الذين أدركوا النتائج المترتّبة للبُعد الزمني عن عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) والاختلاط مع مختلف الشعوب.
فأساس علم إعراب القرآن وُضِع تحت إشراف الإمام علي (عليه السلام)، إذ أمر بذلك أبا الأسود الدؤلي وتلميذه يحيى بن يعمر العدواني، رائدي هذا العلم والواضعين لأساسه؛ فإنّ أبا الأسود هو: أوّل من وضع نقط المصحف.
وتُروى قصّة في هذا الموضوع، تُشير إلى شدّة غيرته، على لغة القرآن، فقد سمع قارئاً يقرأ قوله تعالى:
( ... أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ... ) بجر اللاّم من كلمة (رسوله) فأفزع هذا اللّحن أبا الأسود الدؤلي، وقال:
عزَّ وجه الله أن يبرأ من رسوله، فعزم على وضع علامات معينّة تصون الناس في قراءتهم من الخطأ، وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطةً فوق الحرف، وجعل علامة الكسرة نقطةً أسفله، وجعل علامة الضمة نقطةً بين أجزاء الحرف، وجعل علامة السكون نقطتين (2)
* المصدر : كتاب علوم القرآن للسيد محمد باقر الحكيم
(١)كتاب الفهرست لابن النديم: ٣٠ بتصرّف، طبعة طهران.
(2) سِيَر أعلام النبلاء ٤: ٨١ - ٨٣ للذهبي.