الأُمومة رسالةٌ مقدّسة كُلّفت المرأة بأدَائها، نظراً لكون دور الأُمومة هو أدقّ أدوار الوظائف في الحياة، والمرأة ولكونها عاطفيّة بالطبع والفطرة يكون لها من عاطفتها الفيّاضة دافعً يشدّها إلى تحمّل مهامِّ هذا الدور ومشاكله، والأُم وفي كلّ عصرٍ من العصور كانت لها الأهميّة القُصوى في ذلك العصر، وكانت الأُمَم المتقدّمة تولي الأُم اهتماماً خاصّاً وتتخيّرها وتنتقيها من بين مئات من النساء.
جاء عن رسول الله صلى اللهعليهوآله أنّه قال:
(الجنّة تحت أقدام الأمهات).
فهل هناك غاية في السموّ أعلى من أنْ تكون الأُمّ طريقاً للجنّة، ومِن أنْ يكون رضاؤها باباً يلِج منه المؤمن إلى جنّات النعيم.
نعَم الجنّة التي وعِد المتّقون بها، والتي هي غاية كلّ مسلم، وحصيلةُ عمرٍ ينقضي بالخير والصلاح تكون تحت أقدام الأُمّهات، وتكون الأُم هي الطريق المؤدّي إليها برضاها عن الولد وبإرضائه لها، فالإسلام يعلم أنّ الأُم وبما تُكابده لأجل وليدها من آلامٍ ومحنٍ وأسقام، جديرةٌ بأنْ تكون وسيلةً لولدها في دخول الجنّة، وأنْ يكون إرضاؤها شرطاً أساسيّاً من شروط الإيمان الكامل والإسلام الحقيقي، سَواء أكانت الأُمّ أرفع من الولد أصلاً أم دونَه في الأصل والنسب فهيّ أُمّ وكفَى.
هذه هي حكمة الإسلام ورحمته تجاه الأُم، فالإسلام لا يقرّ لولدٍ مهما كان شريفَ الحسَب والنسَب، أنْ يتطاول على أُمّه وإنْ كانت جارية، فحقّ الأُمومة في شريعة الإسلام حقٌّ مقدّس لا يتغيّر ولا يتبدّل مهما اختلفت الظروف والأحوال، والواقع أنّ العقل والمنطق يؤيّدان هذا ويؤكّدانه، فإنّ الولد لا يُمكن له أنْ ينال الحياة إلاّ بعد أنْ تُغذّيه الأُمّ من دمِها، وبعد أنْ تحمله معها في أحشائها وتحميه في كلّ جارحة من جوارحها، ولا يُمكن له أنْ يعيش أيضاً إلاّ إذا كفلته أُمّه في رعايتها وغذّته مِن لبَنِها وأحلّته في أحضانها.
وعلى هذا فإنّ الولد في الواقع قطعةٌ مِن الأُم قد انفصلت عنها وتكوّنت إلى جنين، فهل يُمكن لبعض الشيء أنْ يعلو على بعضه؟ وهل يُمكن للثمرة أنْ تسمو على الشجرة؟ وهل يُمكن للوردة أنْ تُباهي الغصن؟ ولولا الغصن لَما كان هناك زهرة على وجه الأَرض، والإسلام لاحظ هذا ولاحظ المشاكل التي تحدث من جرّاء هذا الشعور، الذي كان الأولاد يشعرون به قبل الإسلام، تجاه الأُمّ التي هي دونهم في الأصل والنسَب، فأراد أنْ يخوّل الأُمّ ـ وأيّ أُمّ ـ مكانها الذي يُمكّنها مِن حفظ كيانها في كلّ المجالات والظروف، وتُلزِم أولادها الطاعة لها مهما اختلفت عنهم في الأصل والنسَب.
وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يكرّر في أكثر من مناسبة قوله: (وإنّما أنا ابن امرأة مِن قريش تأكُل القديد)، مع أنّ أُمّ الرسول صلىاللهعليهوآله كانت من أعرَق أُسَر قريش وأطهرها نسَباً وحسَباً، وقد جاء في الروايات أيضاً أنّ رجلاً سأل رسول الله صلىاللهعليهوآله عن حقّ الوالدين فأجابه الرسول قائلاً: (أُمّك ثمّ أُمك، ثمّ أُمّك ثمّ أبوك).
فالأُمّ ـ بطبيعتها الأُنثوية ورقّتها الطبيعيّة ـ تهبّ لوليدها من حنانها وعطفها أكثر ممّا يُعطي الأب، بل أكثر ممّا يتمكّن أنْ يُعطيه الأب، نظراً لتكوينه الخاص الذي لا يُمكّنه مِن الاندفاع وراء عواطفه، في الوقت الذي تكون فيه الأُمُّ سريعةَ الاندفاع وراء عواطفها، قليلة التمكّن من التحكّم في مشاعرها، فعلى هذا فإنَّ الولَد يستهلك من عطفِ الأُم وحنانها أكثر ممّا يستهلك من عطف الأب وحنانه، وإنْ كان الحبِّ الواقعي عند الوالدين في حدٍّ سَواء.
وهذا هو السبب في تأكيد رسول الله على حقّ الأُم ثلاث مرّات، ونحن لا ننكر أنّ للولد حقّاً عند أُمّه، وأنّ على الأُم أيضاً أنْ تُحسِن تربية الولد وتغذّي روحيّاته، وتحميه من مهاوي الانزلاق بالمقدار الذي تمكّنها منه قابليّاتها ومعارفها، وعلى الأُم أنْ تشعر بخطَر مسؤوليّاتها وهي تضطلع بدور الأُمومة.
وعليها أيضاً أنْ تعرف أنّها مسؤولةٌ عن النشء الذي تنشئه أمام الله وأمام المجتمع؛ ولذلك فإنّ من ضرورات الأُمومة الصالحة أنْ لا تكون الأُمّ جاهلة؛ لكي تتمكّن من معرفة الطُّرُق السليمة في التربية، وأنا لا أُريد أنْ أقول أنّ على كلّ أُم أنْ تأخذ دبلوماً من معاهد التربية مثلاً، ولا أقصد مثل هذا من قريبٍ أو بعيد، ولكنّي أعني أنّ الأُم يجب أنْ تكون بصيرةً بأُمور دينها ومجتمعها، تتمكّن من تفّهم المشاكل الاجتماعيّة بسهولة، وتتمكّن من معرفة الأخطار التي تترتّب مِن جرّاء تلك المشاكل بسرعة؛ لكي تُجنّب وليدها تلك المشاكل.
وعلى العموم فالأُمّ يجب أنْ تكون واعية وعْياً إسلاميّاً كاملاً؛ لكي تتمكّن من أنْ تُنشئ وليدها على أُسُس الإسلام ومفاهيمه الواقعية.
* المصدر من كتاب المرأة مع النبي في حياته وشريعته –الشهيدة بنت الهدى الصدر