إن للعبادة التي هي هدف الخلق أسراراً، وأسرار العبادة غير الآداب والأحكام، فللعبادة سلسلة من الأحكام ومجموعة من الآداب والأسرار، فأحكامها هي الواجبات المذكورة في الكتب الفقهية: كيفية الوضوء والصلاة، وبيان واجبات الصلاة وأركانها.
وأما آداب العبادة فقد ذكرتها الكتب الفقهية بعنوان المستحبات، وذكرت البقية في كتب الأخلاق.
وأما أسرار العبادات فإنها لم تذكر في الكتب الفقهية ولا في الكتب الأخلاقية، بل هي أمور روحية باطنية مرتبطة بروح الإنسان.
فالدعاء ـ مثلاً ـ له أحكام وآداب واسرار، وأحكام الدعاء تتعلق بما يطلبه الإنسان من الله عز وجل، كأن لا يطلب المحرم، ولا يقصد ضرر الآخرين، ونحو ذلك. وأما آداب الدعاء فهي الهدوء والسكينة وعدم رفع الصوت إلى الحد المكروه، لأن الصوت العالي خلاف الأدب.وأما أسرار الدعاء فهي روح الدعاء، حيث يشعر الداعي بأنه في محضر الله عز وجل، وأن المدعو سبحانه مطلع عليه وهو خير الشاهدين، وتذكر أسرار العبادات في الكتب العرفانية.
يقول تعالى:(واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفةً ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين)، (الأعراف: 205)
كن دائماً في ذكر الله، وليكن ذكره تعالى بقلبك وعلى شفتيك، وليكن ذلك بهدوء آناء الليل وأطراف النهار ـ وهو كناية عن الاستمرارية في الذكر.. ولا تكن من الغافلين.
عندما يخرج الإنسان في تظاهرة أو مسيرة، يرفع خلالها الشعارات، ينبغي له أن لا يتسم بالهدوء والسكينة، بل يرفع صوته بالتكبير والهتاف، كان الرسول (ص) يوصي المقاتلين بأن لا يخلدوا إلى السكون، بل عليهم أن يرفعوا أصواتهم بالشعارات.
وفي مواقع القتال تختلف الشعارات التي يرفعها الإنسان عن الشعارات في المظاهرات، وفي الصلاة أو بعدها يدعو المصلي بهدوء وسكينة وهو مكسور القلب وتلك هي آداب الدعاء.
ومن آداب الصلاة ما جاء في حديث الرسول (ص): "من اتقى على ثوبه في صلاته فليس لله اكتسى"، [من لا يحضره الفقيه ج1، باب 29، ح20]. فإذا كان للإنسان ثوبان أحدهما جديد والآخر قديم وبال، فلا يلبس وقت الصلاة إلا ثوبه القديم، فهو إنسان لا يرتدي ثيابه لله تعالى، بل للناس لأنه يعز ثوبه الجديد على الله، ومثله من كان يحذر الصلاة بالملابس الجديدة في الأماكن القذرة، حتى ولو أدى ذلك إلى تأخر صلاته إلى وقت القضاء، والعياذ بالله، وهذا آدب من آداب الصلاة وليس سراً من أسرارها، لأن أسرار الصلاة أمور باطنية.
إن لكل عبادة ـ صلاة كانت أم غيرها ـ باطناً مثالياً وباطناً عقلياً، والباطن المثالي يراه الإنسان في عالم البرزخ ـ والبرزخ هو عالم القبر ـ وليس للإنسان أربعة عوالم: عالم الدنيا، والقبر، والبرزخ، والقيامة الكبرى، لأن عالم القبر هو عالم البرزخ، فيصبح للإنسان ثلاثة عوالم: الدنيا والبرزخ والقيامة، سئل المعصوم (ع) عن عالم البرزخ متى يبدأ؟ فقال: "منذ القبر"، فالبرزخ هو القبر، في اللحظة التي يدخل الإنسان فيها القبر يبدأ عالم البرزخ، فكل شيء يرتبط بعالم المثال يراه الإنسان في عالم البرزخ، أما الباطن العقلي للعبادات، فيراه فوق عالم البرزخ، والروايات في هذا المضمون كثيرة.
عن أبي بصير تلميذ الإمامين الصادق والباقر (ع) أنه قال: "إذا مات المؤمن دخل معه في قبره ست صور، فيهن صورة هي أحسنهن وجهاً وأبهاهن هيئة، وأطيبهن ريحاً، وأنظفهن صورة، قال: فتقف صورة عن يمينه وأخرى عن يساره وأخرى بين يديه، وأخرى خلفه، وأخرى عند رجليه، وتقف التي هي أحسنهن فوق رأسه، فإن أتي عن يمينه منعته التي عن يمينه ثم كذلك إلى أن يُؤتى من الجهات الست قال: فتقول أحسنهن صورة: من أنتم جزاكم الله عني خيراً؟ فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة، وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه: أنا الصيام، وتقول التي خلفه: أنا الحج والعمرة، وتقول التي عند رجليه: أنا بر من وصلت من إخوانك ثم يقلن: من أنت؟ فأنت أحسننا وجهاً وأطيبنا ريحاً وأبهانا هيئةً، فتقول أنا الولاية لآل محمد (ص)". [المحاسن، للبرقي، الحديث 432، ص232].
يتبين من ذلك أن للصلاة أحكاماً وآداباً وسراً وباطناً، فباطن الصلاة هو هذه الصورة النورانية اتي ترافق العبد المؤمن في القبر والإنسان يستطيع أن يرى صلاته ويتكلم معها، وصلاته تشفع له، وهي بذلك المثال والصورة، فجميع العبادات لها هذه الصور، وهي على هذا المنوال، وهذه الأحاديث النورانية ليست موجودة في الكتب الفقهية أو الأخلاقية، بل هي باطن العبادات، وهي مرتبطة بعلوم أخرى، وقد ذكرت هذه الأحاديث لبعض تلاميذ الأئمة (ع) على الرغم من كثرتهم.
*المصدر: من كتاب أسرار العبادة للشيخ جوادي الآملي