عالم عشق الكتاب (ادفنوني عند مدخل المكتبة كي تطأني أقدام باحثي العلوم الإسلاميّة) المرعشي النجفي، هذا العالم الجليل الذي آثر الرّاحة والسّكينة في أرض مكتبته، مستأنساً بوقع أقدام الطّلاّب والباحثين، علماً أنّ بقعة في "الرّوضة المعصوميّة" في مدينة قم في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة خصّصت له قبل وفاته؟! إنّه من عشق الكتب فهام بها درساً وتأليفاً وجمعاً وصوناً حتى بات لا يفارقها ليلاً نهاراً... وتحمّل في سبيلها الجوع والعطش والسّجن... احبّها فنثرت له جواهرها، وكشفت عن... وأثمر ذلك العشق والهيام مؤلّفات ورسائل في شتى العلوم والفنون، ومكتبة تنافس كبريات المكتبات العالميّة، مكتبة كبرى في قم تعدّ إحدى أكبر مكتبات العالم الإسلاميّ.
حدّث السّيّد المرعشي النّجفيّ جالسيه عن قدر الكتاب وقيمته العلميّة والمعنويّة، وأخبرهم كيف بدأت رحلته في جمع الكتب ليؤسّس فيما بعد مكتبته المشهورة في مدينة قم، كما أخبرهم بما تعرّض له من أجل كتاب فقال: «ذات يوم، خرجت في النّجف الأشرف من مدرسة القوام الواقعة في محل المشراق متوجّهاً إلى السّوق المتّصل بالباب العلويّ الشّريف، فرأيت امرأة تبيع بيض الدّجاج، فاقتربت منها لشراء البيض، وإذا بكتاب تحت عباءتها بان جزء منه، فسألتها عنه، فقالت هو للبيع. فتصفّحته، فإذا هو كتاب:"رياض الصّالحين" للعلاّمة الميرزا عبدالله أفندي، الذي لا يوجد أي نسخة منه سوى ذلك الكتاب.
فسألتها كم تبيعينه؟ فقالت بخمس روبيات، فقلت لها:اشتريته منك بمئة روبية، فوافقت. في هذه الأثناء حضر رجل دلاّل للكتب اسمه كاظم الدّجيلي، يشتري الكتب القديمة لصالح مكتبة لندن، بأسعار زهيدة، ويسلّمها للحاكم الإنكليزيّ في النّجف الأشرف، فتناول الكتاب من يدي عنوة، وقال للمرأة: أنا أشتريه بأكثر ممّا دفع، وأخذ يزايد في سعره، هنالك حوّلت وجهي إلى جهة الحرم الشّريف، وخاطبت أمير المؤمنين(ع) قائلاً: سيّدي! أنت لا ترضى أن يخرج هذا الكتاب من يدي، وأنا أريد أن أخدمكم به... وبعد هنيهة، قالت المرأة لكاظم الدّلال: لن أبيعك الكتاب، فإنّه لهذا السّيّد. ثمّ جمعت المبلغ من هنا وهناك وأعطيته للمرأة، ومضيت به، فما مضت ساعة إلاّ وكاظم الدّلاّل مع الشّرطة قد هجموا على المدرسة واعتقلوني وساقوني إلى الحاكم الإنكليزيّ، فأخذ يتكلّم بلغته مزمجراً، ومتّهماً إياي بالسّرقة، ثمّ أمر بسجني، فسُجنت تلك اللّيلة، وأنا أتوسّل إلى الله أن يحفظ ذلك الكتاب الذي أخفيته.
وفي اليوم الثّاني، بعث المرجع الأعلى الحاج ميرزا فتح الله النّمازي المشهور بشيخ الشّريعة، والميرزا مهديّ ابن صاحب الكفاية [الشّيخ محمّد كاظم الخراسانيّ] جماعة إلى الحاكم، وانتهت المباحثات بإخراجي من السّجن، شرط تسليم الكتاب بعد شهر إلى الحاكم الإنكليزيّ. فطلبت من الطّلبة نسخ الكتاب، وقبل انتهاء المدّة، جرى نسخه ، فحملت الكتاب إلى شيخ الشّريعة، وقلت له:أنت مرجع المسلمين الحاليّ، وهذا الكتاب لا يوجد منه سوى ما نسخناه، ويريد الحاكم الإنكليزيّ أخذ الكتاب الأصليّ، فلمّا رأى الكتاب، قام ثمّ جلس، ثمّ قام وجلس، وقال:هل هو هذا الكتاب؟ قلت نعم. فكبّر الله وهلّل، وأخذه منّي حتى يحين انقضاء المدّة، لكن الحاكم الإنكليزيّ قتل بهجوم شعبيّ قبل موعد تسليم الكتاب، فبقي الكتاب بحوزة شيخ الشّريعة، وبعد وفاته انتقل إلى ورثته».
أمّا النّسخة التي كانت بحوزة السّيّد المرعشي النّجفي، فقد استنسخ منها 12 نسخة، وهي اليوم في المكتبة العامة في قم. وتاريخ هذه الحادثة يعود إلى عام 1340هــــ أو 1341هــ/ 1921م أو 1922م. شغف آية الله السّيّد المرعشي النّجفيّ بجمع الكتب منذ تفتّحه العلميّ في النّجف الأشرف، وكان يرى في الكتب والمخطوطات ثروة نفيسة يجب الحصول عليها لصالح المواطنين، ولطلاّب العلم خاصة، ولا سيّما أنّ المخطوطات والكتب النّادرة كانت مهدّدة بالضّياع والسّرقة، إذ كان رجال الاستعمار البريطانيّ في العراق وفي غيره من البلدان يتهافتون على شرائها والحصول عليها لإيداعها في مكتبات لندن. وكثيراً ما عمد هذا العالم الجليل إلى بيع ألبسته وحاجياته الخاصّة أو رهنها مقابل مبلغ من المال لشراء الكتب والمخطوطات، وبعضها اشتراها بأجرة سنتي صلاة، أو بأربع سنوات صلاة صلاّها نيابة، أو بأجرة شهور من الصّوم صامها نيابة أيضاً، كما حذف وجبة من طعامه توفيراً للمال لتلك الغاية.
في العام 1925م هاجر من العراق إلى إيران وحمل معه كتبه، بينها مجموعة مهمّة كان قد ورثها عن والده، فكانت تلك الكتب، فيما بعد، اللّبنة الأساس التي شكّلت المكتبة العامة في قم، وفي العام 1959م أهدى 278 مخطوطة نادرة وجلّها باللغة الفارسيّة إلى كليّة الإلهيات في طهران، ثم أهدى تباعاً الكثير من المخطوطات والكتب إلى كبريات المكتبات في إيران. وعقب تأسيس المدرسة المرعشيّة في قم عام 1965م، خُصّصت حجرتان من المدرسة للمكتبة، وبعد أشهر من السّنة نفسها، جرى تدشين قسم جديد من المكتبة في الطّابق الثّالث في مبنى المدرسة، ومع ازدياد عدد الباحثين والمحقّقين، ضاق المكان بروّاده، فتمّ في العام 1970م شراء قطعة أرض مساحتها 1000م2 قبالة المدرسة المرعشيّة ووضع آية الله السّيّد المرعشي النّجفيّ الحجر الأساس لبناء المكتبة، وفي العام 1974م جرى تدشين المكتبة وكانت مزوّدة بستة عشر ألف مجلّد من المخطوطات والكتب المطبوعة، ثمّ أضيف 500م2 إلى مساحة المكتبة. ثمّ توسّعت مرّة أخرى بعدما أصدر الإمام الخمينيّ مرسوماً يطلب فيه من الحكومة توسيع المكتبة، وفي هذا الوقت أهدت شركة التّأمين الوطنيّة أرضاً بجوار المكتبة، واشترى القائمون على المكتبة عدداً من الدّور بالقرب من تلك الأرض فأضحت المساحة المتاحة لبناء مبنى جديد 2400م2، وبعد دراسة خرائط كبريات المكتبات العصريّة في العالم، أعدّ المتخصّصون الإيرانيّون والأجانب الخريطة النّهائيّة للمبنى، وفي العام 1989م ضرب آية الله السّيّد المرعشي النّجفيّ المعول إيذاناً ببناء المكتبة الجديدة، على بعد مئات الأمتار من ساحة الشّهداء في قم.
وبعد عقد من الزّمن باتت المكتبة الجديدة مشيّدة في سبع طبقات، في مبنى مزيّن بلوحات فسيفسائيّة معماريّة جميلة على الطّراز الإسلاميّ يطغى عليها اللّونان الفيروزيّ والذّهبيّ. وإلى جانب اهتمامه بالكتب والمكتبة التي أنشأها في قم، أولى المرعشيّ النّجفيّ اهتمامه ببناء المدارس الدّينية والمساجد والحسينيّات ودور الطلبة. وبقي كلّ سني عمره يحمل همّ العلم والكتاب والارتقاء بالتعليم الدّينيّ إلى أن توفي في 8 صفر 1411هـ /1990 م.
بقلم د.أليس كوراني