.. هي السيدة نرجس(ع) بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمّها من ولد الحواريين أصحاب السيد المسيح (ع)، تُنسب إلى شمعون وصي المسيح(ع). من أسمائها: مليكة وصقيل وسوسن وريحانة ومريم وحكيمة وخمط... ولكن أشهرها: "نرجس"، أما كنيتها فهي أمّ محمد. مرّت السيدة نرجس(ع) بمراحل عديدة ومتعبة حتى وصلت إلى ما خُطّط لها إلهياً، لتحقّق الوعد الإلهي وتلتقي بالإمام الحسن العسكري (ع) وتلد صاحب الأمر والزمان (عج).
وهذه المراحل هي:
1- الإمام الهادي(ع) يأمر بشرائها:
روى ابن بابويه والشيخ الطوسيّ - بإسناد معتبر- عن بشر بن سليمان النخّاس2، قال: أنا ذات ليلة في منزلي بسرّ من رأى (سامراء)، وقد مضى هويّ (وقت طويل) من الليل إذ قَرع الباب قارع، فعدوتُ مسرعاً، فإذا أنا بكافور الخادم- رسول مولانا أبي الحسن علي بن محمّد(ع) يدعوني إليه- فقال: "مولانا أبو الحسن عليّ بن محمّد العسكريّ يدعوك إليه".فلبستُ ثيابي ودخلت عليه، فرأيتُه يُحدّث ابنه أبا محمد(ع) وأخته حكيمة(ع) من وراء الستر. فلمّا جلستُ بين يديه قال لي: يا بشر، إنّك من ولد الأنصار، وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خَلَف عن سلف، وأنتم ثقاتنا أهل البيت، وإنّي مزكّيك ومشرّفك بفضيلة تسبق بها الشيعة في المولاة، بسرٍّ أطلعك عليه، وأنقذك في ابتياع (شراء ) أمة".
فكتبَ كتاباً لطيفاً بخطّ روميّ ولغة روميّة، وطبعَ عليه خاتمه، وأخرج شقّة صفراء فيها مئتان وعشرون ديناراً، فقال: خُذْها وتوجَّهْ بها إلى بغداد، وأحضر معبر( جسر ) الفرات ضحوة يوم كذا، فإذا وصلَتْ إلى جانبك زواريق السبابا وترى الجواري فيها، ستجد طوائف المبتاعين من وكلاء قوّاد بني العبّاس وشرذمة من فتيان العرب، فإذا رأيت ذلك فأشرِفْ من البعد على المسمّى عمر بن يزيد النخّاس عامّة نهارك، إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرين صفيقين، تمتنع من العرض ولمس المبتاعين، والانقياد لمن يحاول لمسها، وتسمع صرخة روميّة من وراء ستر رقيق، فاعلم أنّها تقول: وا هتك ستراه، فيقول بعض المبتاعين: عليّ بثلاثمائة دينار، فقد زادني العفاف فيها رغبة، فتقول له بالعربيّة: لو برزت في زيّ سليمان بن داود، وعلى شبه ملكه ما بدت لي فيك رغبة، فأشفِق على مالك، فيقول النخّاس: فما الحيلة ولا بدّ من بيعِك؟، فتقول الجارية: وما العجلة ولا بدّ من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه، وإلى وفائه وأمانته؟. فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخّاس وقُلْ له: إنّ معي كتاباً ملطّفاً لبعض الأشراف كتبه بلغة روميّة وخطّ روميّ، ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه، فناولها إيّاه لتتأمل منه أخلاق صاحبه، فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك".
2- بشر يمتثل لقول الإمام(ع):
قال بشر بن سليمان: فامتثلت جميع ما حدّه ( ميزه ) لي مولاي أبو الحسن (ع) في أمر الجارية، فلمّا نظرَتْ في الكتاب بكَتْ بكاءً شديداً، وقالت لعمر بن يزيد: بعني مِن صاحب هذا الكتاب، وحَلَفتْ بالمحرّجة والمغلّظة (من الأيمان) أنّه إذا امتنع من بيعها منه قتلت نفسها، فما زلتُ أشاحّه في ثمنها (أحاول تخفيضه) حتّى استقرّ الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي(ع) من الدنانير، فاستوفاه، وتسلّمتُ الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفتُ بها إلى الحجيرة التي كُنت آوي إليها ببغداد، فما أخذَها القرار حتّى أخرجَتْ كتاب مولانا(ع) من جيبها وهي تلثمُه، وتطبقُه على جفنها، وتضعُه على خدّها وتمسحُه على بدنها، فقلتُ - تعجّباً منها-: تلثمين كتاباً لا تعرفين صاحبه؟ فقالت: أيّها الضعيف المعرفة بمحلّ أولاد الأنبياء، أعرني سمعك وفرّغ لي قلبك، أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأُمّي من ولد الحواريّين تُنسب إلى وصيّ المسيح شمعون بن حمّون بن الصفا، وأنبّئك بالعجب.
3- أنباء العجب:
قالت السيدة نرجس(ع): إنّ جدّي قيصر أراد أن يزوّجني من ابن أخيه، وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريّين من القسيسين والرهبان ثلاثمائة رجل، ومن ذوي الأخطار منهم سبعمئة رجل، وجمع من أمراء الأجناد وقوّاد العسكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف، وأبرَزَ من بَهِيّ ملكه عرضاً مصاغاً من أصناف الجوهر، ورفعه فوق أربعين مرقاة، فلمّا صعد ابن أخيه، وأحدقت الصُّلُب، وقامت الأساقفة عكّفاً (3)، ونُشِرت أسفار الإنجيل، تسافلتِ الصّلب من الأعلى فلصقت الأرض، وتقوّضت ( تفرقت) أعمدة العرش فانهارت إلى القرار، وخرّ الصاعد (إبن أخ القيصر) من العرض مغميّاً عليه، فتغيّرت ألوان الأساقفة وارتعدت فرائصهم فقال كبيرهم لجدّي: أيّها الملك، إعفني من ملاقاة هذه النحوس، فتطيّر( تشاءم ) جدّي من ذلك تطيّراً شديداً، وقال للأساقفة: أقيموا هذه الأعمدة، وارفعوا الصلبان... ولمّا فعلوا ذلك حدث على الثاني مثل ما حدث على الأوّل، وتفرّق الناس، وقام جدّي قيصر مغتمّاً فدخل منزل النساء، وأرخيت الستور.
4- رؤيا السيدة نرجس(ع)
: وأضافت السيدة نرجس (ع): أُريتُ في تلك الليلة كأنّ المسيح وشمعون وعدّة من الحواريّين قد اجتمعوا في قصر جدّي، ونصبوا فيه منبراً يباري (يسابق) السماء علوَّاً وارتفاعاً في الموضع الذي كان نصب جدّي فيه عرشه، ودخل عليه محمّد (ص).... فتقدّم إليه المسيح فاعتنقه، فقال له محمّد (ص): يا روح الله، إنّي جئتك خاطباً من وصيّك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، وأومأ بيده إلى أبي محمّد (ع) ابن صاحب هذا الكتاب. فنظر المسيح إلى شمعون وقال له: قد أتاك الشرف، فصِلْ رحمك برحم آل محمّد (ع). قال: قد فعلت، فصعد ذلك المنبر، فخطب محمّد(ص) وزوّجني من ابنه، وشهد المسيح(ع)، وشهد أبناء محمّد(ع)، والحواريّون.
5- الإفراج عن أسرى المسلمين:
قالت السيدة نرجس (ع): فلمّا استيقظتُ أشفقتُ أن أقصّ هذه الرؤيا على أبي وجدّي مخافة القتل، فكنتُ أسرُّها ولا أبديها لهم، وضُرب صدري بمحبّة أبي محمّد(ع) حتى امتنعت من الطعام والشراب، فضعفت نفسي، ودقّ شخصي، ومرضتُ مرضاً شديداً، فما بقي في مدائن الروم طبيب إلاّ أحضره جدّي وسأله عن دوائي.
فلمّا برّح به اليأس قال: يا قرّة عيني هل يخطر ببالك شهوة فأزوِّدكها في هذه الدُنيا؟ فقُلتُ: يا جدّي، أرى أبواب الفرج عليّ مغلقة، فلو كشفت العذاب عمّن في سجنكَ من أسارى المسلمين، وفككتَ عنهم الأغلال، وتصدّقتَ عليهم ومنّيتهم الخلاص رجوتُ أن يهبَ المسيحُ وأمُّه لي العافية. فلمّا فعل ذلك تجلّدتُ في إظهار الصحّة من بدني قليلاً، وتناولتُ يسيراً من الطعام، فسُرَّ بذلك، وأقبلَ على إكرام الأسارى وإعزازهم.
6- قصة الأسر:
قال بشر بن سليمان: فقُلْتُ لها: وكيف وقعتِ في الأسارى؟ فقالت: أخبرني أبو محمّد(ع) في ليلة من الليالي( في عالم الرؤيا ) قال: إنّ جدّكِ سيسيّر جيشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا وكذا، ثمّ يتبعهم، فعليكِ باللحاق بهم متنكّرة في زيّ الخدم مع عدّة من الوصائف، من طريق كذا، ففعلتُ ذلك، فوقفَتْ علينا طلائع المسلمين حتّى كان من أمري ما رأيتُ وما شاهدت، وما شعر بأنّي ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية أحدُ سواك، وذلك باطلاعيَ إيّاكَ عليه، ولقد سألني الشيخ الذي وقعتُ إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرت وقلت: نرجس.فقال: اسم الجواري. قال بشر: قُلتُ: العجب أنكِ روميّة ولسانك عربيّ؟ قالت(ع) نعم، من ولوع (4) جدّي وحمله إيّاي على تعلّم الآداب أَنْ أوعز إلى امرأة ترجمانة له في الاختلاف( الحضور) إليّ، وكانت تقصدني صباحاً ومساءً وتفيدني العربيّة حتّى استمرّ لساني عليها واستقام.
7- لقاؤها(ع) بالإمام الهادي(ع)
قال بشر: فلمّا انكفأتُ بها إلى سُرّ من رأى، دخلَتْ على مولاي أبي الحسن(ع) فقال لها: كيف أراكِ الله عزّ الإسلام وشرف محمّد أهل بيته(ع)؟. قالت: كيف أصفُ لك يابن رسول الله ما أنت أعلمُ به منّي؟ قال(ع): فإنّي أحبّ أن أكرمك، فأيّما أحبّ إليكِ؛ عشرة آلاف دينار، أم بشرى لك بشرف الأبد؟ قالت: بل بشرى بشرف الأبد، فأنا لا أريد مالاً. قال(ع): أبشري بولد يملك الدُّنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.
قُلتُ: ممّن؟ قال(ع): ممّن خطبك رسول الله(ص) له ليلة كذا في شهر كذا في سنة كذا، ثمّ قال لها بالرومية: ممّن زوجّك المسيح(ع) ووصيّه. قالت: من ابنك أبي محمّد(ع). فقال: وهل خلَتْ ليلة لم يزرني فيها منذ الليلة التي أسلمتِ على يد سيّدة النساء(ع).
قال بشر: فقال مولانا(ع): يا كافور، ادعُ أختي حكيمة، فلمّا دخَلتْ قال لها: ها هي فاعتنقتْها طويلاً وسرَّتْ بها كثيراً. فقال لها أبو الحسن(ع): يا بنتَ رسول الله، خُذيها إلى منزلك وعلّميها الفرائض والسُنن، فإنّها زوجة أبي محمّد، وأُمّ القائم(ع) (5 ).
وهكذا تمّ الزواج المبارك، حيث اجتمع الإمام أبو محمد الحسن العسكري (ع) وزوجته السيدة نرجس (ع) في منزل عمته السيدة حكيمة، فأقاما عندها أياماً عدّة ثم غادراها إلى منزل الوالد الإمام علي الهادي (ع)، ليُبصرَ الدنيا فيما بعد المولود الكريم، الذي به يُحيي الله تعالى الأرض بعد موتها ... إنه منقذ البشرية وقائم آل محمد (ص)... إنه الإمام المهدي المنظر(عج).
المصدر: زوجات الأئمة المعصومين- الشيخ ماجد ناصر الزبيدي- بتصرف
الهوامش :
1- هُم أصحاب نبي الله عيسى(ع).
2- النخاس: بائع الجواري، وبشر هو من ولد أبي أيّوب الأنصاري، أحد موالي أبي الحسن وأبي محمد(ع) وجارهما في سرّ من رأى.
3- عكف: أقبل عليه مواظباً لا يصرف عنه وجهه.
4- الولوع: العلاقة.
5- منتهى ا لآمال: ج2، ص556.