عواقب وأخطار بقلم الشيخ مصطفى قصير (رحمه الله)
العلاقة بين الجنسين خارج إطار المؤسسة الزوجية تتصدر الدراسات الاجتماعية بشكل دائم، لما لهذه العلاقة من آثار ونتائج، وما لها من أبعاد تتفرع على الرؤية الفلسفية والدينية. والإسلام باعتباره دين حياة، وبما يمتلك من رؤية شمولية لكل ما يرتبط بالعالم والإنسان، رسم معالم طريق الكمال الروحي للبشرية وسبل السعادة في الدنيا والآخرة، وقد وضع للعلاقة بين الجنسين جملة من الأحكام والضوابط في سياق المنظومة الشاملة للأحكام الشرعية والضوابط الأخلاقية التي تتناول مختلف جوانب حياة الإنسان.
في هذا العصر، أفرزت لنا الحضارة المادية التي تسعى لفرض سيطرتها على العالم وتسويق ثقافتها وقيمها المخالفة للأديان السماوية، أفرزت لنا رؤية خاصة للمرأة بشكل خاص، وللعلاقة بين جنسي البشرية بشكل عام. فقدمت المرأة المثالية الغربية بصورة مجرّدة عن أي عفّة، ومتحرّرة من كل قيد أخلاقي يحجب جوهرها عن الأدناس والرذائل، وعلى العكس من ذلك اعتبرت أن التحرر من قيود الحجاب والعفاف والضوابط الشرعية للعلاقات مع الجنس الآخر يمثل قيمة من قيم تلك الحضارة الأساسية، تدخل تحت شعار الحرية الفردية وحقوق الإنسان والتقدم.
عواقب الحضارة المادية: نحن اليوم لم نعد بحاجة إلى بذل الكثير من الجهد للاستدلال على أخطار هذه الرؤية، وفشل هذه الأطروحة في إيصال المرأة إلى سعادتها، والانتقال بالمجتمع إلى الجنة المنشودة التي زعمت تلك الحضارة أنها تضمنها للبشرية، فالمجتمع الغربي اليوم يعاني من أسوأ العواقب الوخيمة التي أنتجتها هذه الثقافة. تعالوا بنا لنرى مستوى التفكك الاجتماعي والأسري في المجتمع الغربي فهم لم يعد لديهم هناك أسرة سليمة، فالروابط الأسرية تضمحل بشكل كبير، وقد تفشى الطلاق بشكل واسع رغم معارضة الكنيسة، أما الولادات غير الشرعية فوصلت في العديد من الدول الغربية إلى ما يزيد عن 50% في تلك البلاد، والامتناع عن الزواج بلغ أقصاه، ومن الواضح ما يتبع ذلك من آثار سيئة، منها الخواء الروحي والعاطفي وانعدام الروابط الاجتماعية وضعف الانتماء للوطن وازدياد حالات اليأس والانتحار وأمثال ذلك - هذا فضلاً عن الأمراض الجنسية المتفشية والمهلكة التي يقف الطب عاجزاً عن مقاومتها.
الخطوة الأولى نحو هذا الواقع المأساوي انطلقت من العلاقات المفتوحة والمتحررة عن الروادع الدينية والضوابط الأخلاقية الشرعية، وقد انتقلت عدواها إلى بعض مجتمعاتنا وأسرنا نتيجة الانبهار بالحضارة المادية والثورة الصناعية، مما يضعنا أمام مسؤولية العمل على تحصين واقعنا الاجتماعي والحيلولة دون السقوط في مهاوي الهلكة التي وصل إليها أصحاب هذه الثقافة .
معالم السعادة والكمال: ولا بد هنا من العودة إلى الأطر الشرعية للعلاقات، وسلوك السبيل التي خطها خالق الإنسان للبلوغ به إلى كماله وسعادته في الدنيا والآخرة. الإسلام شرّع جملة من الأحكام لها مدخلية في تحصين المرأة وتنظيم علاقة مأمونة بين الرجل والمرأة، واعتنى عناية خاصة بالأسرة لتكون الخلية الصالحة التي يتشكل المجتمع السليم منها... فالحجاب من شأنه أن يصون المرأة من الابتذال، ويفرض على الرجل أن ينظر إلى إنسانيتها بدلاً من الاقتصار على البعد الجسدي والجنسي فيها) .ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى).
وحرّم النظرة الشهوانية لكل من الرجل والمرأة خارج دائرة الزوجية، باعتبارها مدخلاً للوقوع في العلاقة المحرّمة «النظرة سهم من سهام إبليس مسموم». ومنع من النظر مطلقاً لغير الوجه والكفين. ووضع للزينة جملة من الضوابط تخرجها عن لعب دورٍ ساهم في التشجيع على الوقوع في الحرام، ولم يقتصر على الزينة المعروفة، بل تعدى إلى كل بواعث الاغراء ولو كانت من المسموعات أو المشمومات.
ضوابط الاختلاط :
كما وضع جملة من الضوابط الوقائية للحيلولة من الانزلاق إلى مواطن الخطر والانحراف، ويأتي الاختلاط في سياق هذه الأمور، والتي سنخصص لها الكلام في هذه الدراسة المختصرة...
.1- التفريق بين الأولاد في المضاجع - ورد في الحديث عن رسول الله(ص) قال: «الصبي والصبي، والصبي والصبية، والصبية والصبيّة، يفرّق بينهم في المضاجع لعشر سنين». وذلك لأن الجمع بينهم في المضاجع، (والمقصود في فراش واحد)، مظنّة الانزلاق إلى ممارسات محرّمة في فترة النضج الجسدي والبدء بالتعرف على الجوانب الغريزية، مع ضعف كبير في الادراك لعواقب كل ذلك وهي خطوة وقائية مبكرة تمنع من تفتح الغريزة قبل أوانها، وتحول دون اكتساب عادة سيئة، قد تذهب بهم بعد ذلك مذاهب أخطر. فالتفريق بينهم أحد مظاهر منع الاختلاط.
2 . النهي عن دخول الأولاد الذين لم يبلغوا الحلم على الأبوين في فترات الاستراحة الخاصة من دون استئذان مسبق، في خطوة وقائية تدخل في سياق الحيلولة دون الاختلاط المضر - ففي الآية الشريفة (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء...) (النور: 58).
3 . النهي عن اختلاء المرأة بالرجل في الأماكن المغلقة دون شخص ثالث. فقد ورد في الحديث أن الشيطان قال لموسى (ع): «ما خلا رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت صاحبه افتتنه بها» (مجموعة ورام باب تهذيب الأخلاق). وفي الآية القرآنية: (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن) (الأحزاب: (53.
هذه أيضاً خطوة وقائية تحول دون الوقوع في ضعف أمام نداء الغريزة، واستغلال الشيطان لها، وهي وإن اختلفت من شخص لآخر قوة وضعفاً إلاّ أن القاعدة هنا تقضي بسد الذرائع وإزالة الأسباب والعوامل الموجبة للفتنة. الاختلاط في المجتمع.
وهو على أصناف: الاختلاط في أماكن العمل والأسواق. الاختلاط في المدرسة والجامعة. الاختلاط في أماكن السياحة والترفيه كالمنتزهات وشواطىء البحار والأنهر والنوادي العامة. الاختلاط في صالونات البيوت.
سبل الوقاية من أخطار الاختلاط:
هذه الحالات من الاختلاط يمكن أن تتفاوت في المستويات ومن حيث خضوعها لضوابط وقيود تحد من أخطارها، أو تحللها من كل تلك الضوابط أو بعضها. ففي العصر الحاضر قد يضطر الوضع الاقتصادي الكثير من نسائنا للنزول إلى ميادين العمل، وإلى الأسواق للحصول على الرزق والاشتراك مع الزوج أو الأسرة في تحمل أعباء الحياة، ولا شك أن ذلك يرافقه التعرض أحياناً إلى مخاطر الاختلاط، خاصة إذا كان عمل المرأة يفرض الالتقاء بالرجال والتحدث إليهم سواء كانوا زملاء عمل أو زبائن، والأخطر بلا شك تلك الحالات التي تفرض على المرأة العمل في مكان مغلق مع رئيس أو زميل، الأمر الذي يتيح حالة الاختلاء، مما ينبغي العمل على تجنبه، والابتعاد عنه.
ويأتي بدرجة أقل خطراً، الاختلاط الذي يفرض الالتقاء والتحدث في مكان مفتوح. لكن يبقى البحث عن أماكن عمل من دون اختلاط تمثل الخيار الأمثل ويجب العمل على تحقيق ذلك قدر المستطاع، نعم هنا يؤدي الوعي وقوة الإرادة وامتلاك الحصانة الذاتية الدور الفاعل في الوقاية من أخطار الاختلاط، مما يعني ضرورة العمل على إكساب المرأة والرجل على حد سواء تلك الحصانة وذلك الوعي في برامجنا التربوية والثقافية والتبليغية.
أما الاختلاط في الجامعة والمدرسة، فتتفاوت أيضاً مستوياته، فبعض الجامعات التي تتعمد الترويج للاختلاط السلبي، تهيء كل الوسائل والمغريات التي تحقق أسوأ أنواع الاختلاط، وذلك عبر التشجيع على ارتياد النوادي والمسابح التي قد تكون في نفس الجامعة، أو تنظيم الحفلات الراقصة المختلطة أو الرحلات المختلطة، وهذه من المخاطر التي تحف بالمجتمع من خلال المؤسسات التربوية والتعليمية التي تتبنى ثقافة وقيم الحضارات المادية التي تقدم الحديث عنها.
وهناك مستويات من الاختلاط أدنى من ذلك، ولعل الحد الأدنى هو ما تضطر لاعتماده بعض المؤسسات التربوية والتعليمية الجامعية والمدرسية لكن مترافقاً مع كل الضوابط التي تحول دون الوقوع في سلبيات الاختلاط. ومن أمثلة ذلك، الاقتصار على الاختلاط داخل قاعة الدرس وتحت رقابة الأساتذة، وبحدود تجميع الفتيان إلى جهة والفتيات إلى جهة أخرى، ويتبع ذلك فصل في الملاعب والمرافق. وهذا النوع من الاختلاط الذي تفرضه أحياناً الضرورات الناتجة عن محدودية المكان والامكانيات المادية، ينبغي أن يبقى الاستثناء الذي يخالف القاعدة، على الرغم من تصدي بعض الأصوات للدفاع بأنه وبهذه الحدود يدخل في التدريب على الالتزام بالضوابط الشرعية في العلاقات، مما يساعد عند التعرض لمستوىً آخر من الاختلاط على بقاء العلاقة ضمن الحدود الشرعية بالرادع الذاتي.
أما الاختلاط في أماكن الترفيه والشواطىء فلا يقل خطورة عن الاختلاط في الجامعة وأماكن العمل، إن لم نقل بأنه أسوأ منها، لأنه بحد ذاته يوجد جواً من القابلية نظراً لغياب الدوافع الأخرى التي كانت تفرض نفسها على العلاقة كمقتضيات العمل والدراسة، فإن جو الترفيه هو جو أنس يتناسب بشكل أكبر مع الدوافع الغريزية، وإذا غابت الحصانة الذاتية، ودخلت المغريات الأخرى صار من أماكن الريبة، ولذا كان توفير أماكن الترفيه الشرعية أمراً مطلوباً إلا أنه غير متيسر بشكل واسع. وأخيراً الاختلاط في صالونات البيوت، فإن الزيارات العائلية التي يتم تبادلها بين الجيران والأصدقاء والأقارب، قد تتحول من ممارسة مستحبة وشرعية إلى ممارسة سيئة مبغوضة، وذلك عندما يدخل الاختلاط إليها، فالزيارات العائلية المختلطة إذا تكررت وفتحت المجال لبناء علاقة بين الجنسين تصبح مدخلاً لكل المخاطر المترتبة على الاختلاط. فكثير من العلاقات المحرّمة التي أوقعت المحصنين بالفواحش بدأت عبر زيارة الصديق إلى بيت صديقه، أو الجار إلى منزل جاره مع رفع الكلفة والجلوس المختلط الذي جرّ إلى ذلك.
في الختام... ينبغي العمل على خطين:
الأول: وقائي يفرض الحرص على إزالة كل الظروف والعوامل والأسباب التي قد تؤدي إلى علاقة غير مشروعة وغير سليمة، ويدخل في ذلك ما تقدم من أساليب اختلاط.
الثاني: تربوي يوجد عند الإنسان حصانة ذاتية، ووعياً كافياً للمخاطر وللنتائج المترتبة على أي ممارسة، وإرادة قوية تحول دون الوقوع في أسر الاغراءات والضعف أمامها.
وهذه هي الأصل الذي لا غنى لنا عنه سواء تحقق لنا ما نريد في الخط الأول أم لم يتحقق. ولا شك أن المسؤولية الكبيرة في كل ذلك تقع على الأهل وعلى المربين الذين حمَّلهم اللَّه هذه المسؤولية وأوكل إليهم هذه المهمة (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة) .