إنّ الزهد هو حالة مركّبة من مجموعة عناصر، وعندما نرجع إلى الروايات والآيات يمكن أن نستخرج عناصر عدّة. فالعنصر الأول الذي يُشترط توفّره في مفهوم الزهد هو ترك المعاصي والذنوب والمحرمات، وهذا طبعاً الحدّ الأدنى، وهو مطلوب في كلّ إنسان مكلّف، ذكراً كان أو أنثى. إنّ الحدّ الأدنى المطلوب هو أن يترك الناس الحرام، بغضّ النظر عن أن يُصبحوا زُهّاداً أم لا.
من هنا، نبدأ في بناء الأساس:
أوّلاً: ترك الحرام في المعاملات، في المسائل الشخصية، في العبادات، في القضايا الخاصّة، وفي القضايا العامّة. وهنا أحبّ أن أؤكد أننا عندما نقول: "ترك الحرام"، فإننا لا نعني مجرّد أن الشخص لا يشرب الخمر، ولا يسرق، ولا يرتشي، ولا يكذب... هذه من المحرّمات صحيح، لكن المحرّمات تشمل كلّ الساحات، وإنّ كلّ ما يُفسد حياة الناس ودنياهم حرّمه الله سبحانه وتعالى بنصوص واضحة ووحي منزل على رسوله (ص).
ثانياً: شكر النعمة، أي أن يكون هذا العبد شاكراً لنعمة الله سبحانه وتعالى عليه. ومن أشكال شكر النعمة أن يقول الحمد لله والشكر لله، وأن يستعمل نِعمّ الله في طاعة الله وفيما يقرّب منه، وأن يجتنب استخدام النعمة في ما يُغضب الله ويُسخطه. وليس شكر النعمة فقط أن يقول الشكر لله والحمد لله.
ثالثاً: قُصر الأمل: بمعنىً مقابلٍ لطول الأمل. نقول لأحدٍ إنّ الموت على الأبواب، لا تعرف في أي ساعة تموت، إذ ليس شرطاً أن تموت في الحرب؛ كثيرٌ من الناس يذهب إلى الحرب ولا يموت... "الموتُ طالبٌ حثيثٌ لا يفوته المُقيم ولا يُعجزه الهارب" (نهج البلاغة، الخطبة، 123)..."أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة" (سورة النساء، الآية: 78). قد يقول أحدهم: أنا شاب وبصحة جيّدة، فالأرجح أن أعيش خمسين سنة على أقل تقدير. والمشكلة أنّ طول الأمل عند الكبار أكثر مما هو عند صغار السنّ. أمّا قصرُ الأمل، فهو أن يشعر الإنسان بأن الموت بين عينيه، أي أن يستحضر في نفسه أن الموت يمكن أن يأتيه في أي لحظة، بواسطة سكتة قلبية، أو حادث سيارة أو تُصيبه رصاصة طائشة، أو يُصادف مروره تحت بناء آيلٍ للسقوط أو قيد الإنشاء، فيقع حجر على رأسه أو ما شابه. الحقيقة أن لا أحد يضمن بقاءه.
إنّ قصر الأمل هو أن لا يظن الإنسان أو يتوهّم أنّه سيعيش سنين طويلة وما شاكل، بل حتى أشهراً وأياماً- وهنا الموضوع يصير نسبياً-، أن يشعر الإنسان بأن الموت يمكن أن يُباغته ويُلاقيه في أي لحظة من اللّحظات.
رابعاً: الرضا بما أعطاه الله، فلا يعترض: لماذا أعطيتني القليل! أولادي قلّة، منصبي صغير، أموالي قليلة، تختبرني أكثر من الناس أو أقلّ منهم. إنّ الزهد لا يجتمع مع الاعتراض، بل يجب الرضا، وهو أكثر من مجرّد سكوت أو عدم اعتراض على ما أعطاه الله سبحانه وتعالى. لقد قسّم الله الأرزاق بهذا الشكل، سواء تعلّق الأمر بالعلم والمعرفة أو المال، أو الأولاد. فالرزق ليس المال فقط، كلّ شيء هو رزق، والرضا يعني أن أكون راضياً بقسمة الله في كل شيء.
خامساً: الثقة بما عند الله أكثر من ثقتك بما في يدك، أي أن هذا المال – مثلاً- الذي هو الآن في يدي، يمكن في أي لحظة أن يزول أو يُسرق أو يحترق. أمّا ما عند الله فيبقى. ثم هناك ما يُمكن أن يرزقني الله إيّاه في الدنيا، لذلك يجب أن تكون ثقتي به وبما عنده أقوى بكثير من ثقتي بما عندي وفي يدي.
سادساً: ترك الحلال بشرطين:
الشرط الأوّل: أن لا يكون في ترك هذا الحلال تركاً لسُنّة رسول الله (ص)، وبالتالي لا يعني ترك الحلال ترك الزواج، لأن الرسول (ص) يقول: الزواج سنّتي ومن عَدَل عن سنّتي فليس مني. وهو لا يعني ترك الطِيب، لأنّه من سنّة رسول الله (ص). ولا يعني كثيراً من الأعمال المُباحة والمُستحبّة التي أكدت عليها سُنّة رسول الله (ص).
الشرط الثاني: أن لا يكون الحلال المتروك من حاجات الإنسان الطبيعية، أي أن يترك الحلال الذي يستغني عنه، لا أن يترك حاجة ضرورية. سابعاً: أن يتساوى عند الإنسان ما خسره وما ربحه، ما مضى وما يأتي. يعني بتعبيرٍ آخر، الزهد هو أن لا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما أتاهُ.
المصدر: * من خطاب عاشورائي ل سماحة حجّة الإسلام والمسلمين السيد حسن نصرالله.*