من الممكن القول إن جوهر وروح الدين هو تجاوز الإنسان لنفسه وأهوائه وأغراضه، وإن زعم شخص أن هذا هو معنى التدين فلن يكون كلامه عبثاً. والمقصود من تخلص الإنسان من نفسه هو أن لا يجعل لها أي شأن مطلقاً أمام إرادة الله وعظمته وأمره ونهيه. وهذا الشخص الذي يصل إلى هذه المنزلة هو المتدين الحقيقي.
إن صلاة المرء وصدقته وحجّه وسائر عباداته لا قيمة لها إن كان يرى لنفسه شأناً ومقاماً أمام الله. فأعمال المتكبرين غير مقبولة ولا فائدة منها. والذين يرون لأنفسهم مقاماً أعلى من الآخرين ويحسبون لأنفسهم وأنانيتهم حساباً دون اعتبار لشؤون غيرهم من الناس، هؤلاء ستكون عبادتهم ضئيلة الأثر، وإن كانوا في الظاهر من أهل الزهد والطاعة والتقوى، ذلك لأن المتقي حقاً لا يمكن أن يتصف بمثل هذه الصفات.
المتكبر، ولو قرأ القرآن وذكر الأذكار وجاهد فإن كل هذه الحسنات لن تؤثر تأثيرها الكامل فيه. لقد تنوّع الحكام والسلاطين والأمراء على مر التاريخ، ولم يكونوا جميعهم منكرين للدين. البعض منهم كان يعبد الله ويصلي. لم يكن الجميع كمحمد رضا شاه وأبيه تاركين للصلاة. ولقد قرأت في أخبار فتح علي شاه (أحد ملوك القاجارية) أنه كان يستمع لدعاء كميل كل ليلة جمعة هو وعائلته ومجموعة من الناس. لكن ما كان أثر ذلك الدعاء؟! والصلاة التي كان يصليها ناصر الدين شاه الذي ينقل عنه أنه قال ذات يوم: "نظرنا من شمس العمارة فوجدنا الناس فرحين، ونظرنا فوجدنا أن الصلاة قد تأخرت، فصلينا". فهل تتصورون أن تلك الصلاة كانت مفيدة؟ إن هكذا دعاء وصلاة لا فائدة منها.
أعمال كهذه لن تقرّب الإنسان من الله، والتاريخ يبرهن لنا ذلك. فلو كانوا قريبين من الله لما ظلموا الخلق كل هذا الظلم، ولما فسقوا وفجروا وأجحفوا الناس حقوقهم. بكاء هارون الرشيد كان خلفاء بين أمية وبني العباس في منتهى السوء والظلم والخبث، ولكنهم كانوا في نفس الوقت يصلّون ويصومون ويبكون ويتهجدون. ويحكي عن هارون الرشيد أنه بكى بكاءً ابتلت لحيته منه عندما نصحه أحد زهّاد عصره. هل كان لبكائه أثر؟! في الواقع إن البكاء على النفس هو المطلوب وهو المؤثر. وطوبى لمن يبكي على نفسه. لكن بكاء هارون لم يكن كذلك، فأنانية هارون هي الأساس في بكائه، هو يريد كل شيء لنفسه، حتى الله يريده لنفسه. هارون كان يعبد نفسه، وهذا هو التكبر.
انتبهوا، لا تتكبّروا. لا تغرّوا أنفسكم بأن لديكم منصب أو إمكانات أو مستوى علمي أو ميزة وأفضلية معينة.
فستكون مثل ذلك الرجل (الملك ناصر الدين شاه) الذي كان ينظر إلى الناس من أعلى شمس العمارة بتحقير واستصغار.
عند محاسبة النفس يجب أن لا يرى الإنسان نفسه فوق الآخرين. وإذا صلّينا وبكينا وتصدقّنا وعملنا في طريق الإسلام، فإن ذلك لا يعطينا الأفضلية على هذه المجموعة أو تلك.
إن حسّ الأفضلية مضرّ للغاية. لكنه في المقابل لا يمنع المرء من رؤية نفسه أعلى من أعدائه (لأنهم أعداء الله تعالى) إذا كان الدوافع وراء ذلك هو ولاية الله عز وجل. بل في هذه الحال يجب ذلك.
الإنسان يجب أن يتواضع أمام أولياء الله وأمام المؤمنين، وإلاّ فالتكبر سيؤدي به نحو الهاوية، والقصص كثيرة حول أحوال المتكبرين في العالم. الحاكم المتكبر كان يوسف بن عمر الثقفي حاكماً على العراق في عهد هشام بن عبد الملك ــ أحد خلفاء بني أمية ــ وقد كان يوسف شديد الظلم والجور، فهو الذي قتل زيد بن علي بن الحسين الذي يعتبر من كبار شهداء الإسلام.
كان هذا الحاكم الجائر قصير القامة كثير التكبر والغضب، وقد عرف عنه أنه كان يقتل كل من ينعته بقصير القامة أو نحيف الجسد، ويذكر أن خياطي ملابسه كانوا يأتون بكميات كبيرة من القماش ليأخذوا مقاس الثقفي ويخيطوا أثوابه. وعندما كان يسألهم عن كفاية حجم القماش كانوا يضطرون للقول بأنه بالكاد يكفي أو أنه ناقص، لأن من يقول بأنه كثير يقطع رأسه مباشرة. كان الثقفي في بعض الأحيان يبعث بالقماش إلى الخياط فإذا أرجع الخياط مع الملابس القماش الزائد وقال إنه زيادة عن المطلوب قطع رأسه، كان الخياطون دائماً يجيبون بأن القماش قليل وأنهم سيجهدون لخياطته بشكل صحيح، وذلك الأحمق كان يفرح بذلك. الغرق في حب النفس يحدث عقداً في نفس الإنسان.
ويجب أن نحذر دائماً من الوقوع في هذا المرض والحجاب الذي لا يأمن شره أحد حتى ذوو الصلاح والتقوى. ففي أي مقام كنتم ومهما كانت عبادتكم صالحة استجيروا بربكم وانظروا إلى ما بين أيديكم، فإنه لا شيء أمام الله. إن عظمة الخالق أوسع من دائرة تفكيرنا. أين نحن من عظمة الله. بل أين نحن من عظمة الأنبياء والأولياء. وأكثر من ذلك ما هي قيمتنا مقابل عظمة الصالحين وكبار رجال التاريخ. هؤلاء الكبار هم الذي تنازلوا عن النفس في سبيل الله، وذابوا في الأنوار والمحبة الإلهية.
ما هي قيمتنا أمام هؤلاء؟! نحن الذين غرقنا في الدنيا وفي إنيتنا وأوهامنا. أئمتنا يستغفرون ربهم ويتوبون إليه ويتألمون من الذنوب، فأين نحن؟ وذنوب الأئمة ليس من قبيل الغيبة والكذب وغيرها... فهم معصومون، إن أقلّ غفلة هي ذنب عندهم، عليه يبكون وإلى الله يلتجأون وينيبون. فما هي قيمتنا أمام هؤلاء؟ إننا وفي أي مستوى كنا، يجب أن لا نرى أنفسنا أكثر من تراب تحت أقدامهم.
المصدر:الامام الخامنئي- المواعظ الحسنة