حين نقرأ آيات كتاب الله العزيز أو نسمعها، تلفت انتباهنا الآية 71 من سورة النمل: " وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ...". هنا يواجهنا سؤال يطرح نفسه: هل أنّ إيجاد التفاوت والاختلاف في الأرزاق بين الناس ينسجم مع عدالة الله عزَّ وجلَّ ومساواته بين خلقه، التي ينبغي أن تحكم نظام المجتمع البشري؟ لأجل الإجابة، ينبغي الالتفات إلى الملاحظتين التاليتين:
1 - إن الاختلاف الموجود بين البشر في جانب الموارد المادية يرتبط بالتباين الناشئ بين الناس جرّاء اختلاف استعداداتهم وقابليتهم من واحد لآخر.والتفاوت في الاستعدادين الجسمي والروحي يستلزم الاختلاف في مقدار ونوعية الفعالية الاقتصادية للأفراد، مّا يؤدّي إلى زيادة وارد بعض وقلّة وارد البعض الآخر،ولا شكّ بأنّ بعض الحوادث والاتّفاقات له دخل في إثراء بعض الناس، إلاّ أنّه لا يمكن أن نعوّل عليه عند البحث، لأنَّه ليست أكثر من استثناء.
أمّا الضابط في أكثر الحالات فهو التفاوت الموجود في كمية وكيفية السعي (ومن الطبيعي أنّ بحثنا يتناول المجتمع السليم والبعيد عن الظلم والاستغلال، ولا نقصد به تلك المجتمعات المنحرفة التي تركت قوانين التكوين والنظام الإنساني جانباً وانزلقت في طرق الظلم والاستغلال).
وقد يساورنا التعجّب حين نجد بعض الفاقدين لأيّ مؤهل أو استعداد يتمتّعون برزق وافر وجيّد، ولكنّنا عندما نتجرّد عن الحكم من خلال الظواهر، ونتوغّل في أعماق مميزات ذلك البعض جسمياً ونفسياً وأخلاقياً، نجد أنّهم يتمتعون بنقاط قوّة أوصلتهم إلى ذلك. وعلى أيّة حال.. فالتفاوت بين دخل الأفراد ينبع من التفاوت بالاستعدادات، وهو من المواهب والنعم الإلهيّة أيضاً، وإن أمكن أنْ يكون بعض ذلك اكتسابياً، فالبعض الآخر غير اكتسابي قطعاً.
فإذَن، وجود التفاوت في الأرزاق أمرٌ غير قابل للإنكار من الناحية الاقتصادية، ويتمّ ذلك حتى داخل المجتمعات السليمة.. إلاّ إذا افترضنا وجود مجموعة أفراد كلّهم في هيئة واحدة من حيث: الشكل، اللون، الاستعداد ولا يعتريهم أي اختلاف! وإذا ما افترضنا حدوث ذلك، فإنه بداية المشاكل والويلات!
2 - لو نظرنا إلى بدن إنسان ما، أو إلى هيكل شجرة أو باقة ورد، فهل سنجد التساوي بين أجزاء كل منها ومن جميع الجهات؟ وهل أنّ قدرة ومقاومة واستعداد جذور الشجرة مساوية لقدرة ومقاومة واستعداد أوراق الوردة الظريفة؟ وهل أن عَظم قَدَم الإنسان لا يختلف عن شبكيّة عينه؟ وهل من الصواب أن نعتبر كلّ ذلك شيئاً واحداً؟! ولو تركنا الشعارات الكاذبة والفارغة من أيّ معنى، وافترضنا تساوي الناس من جميع النواحي، فنملأ الأرض بخمسة مليارات من الأفراد ذوي: الشكل الواحد، الذوق الواحد، الفكر الواحد، بل والمتحدّين في كلّ شيء كعلبة السجائر.. فهل نستطيع أن نضمن أنّ حياة هؤلاء ستكون جيّدة؟ ستكون الإجابة بالنفي قطعاً، وسيحرق الجميع بنار التشابه المفرط والرتيب الكئيب، لأنَّ الكل يتحرك في جهة واحدة، والكلّ يريد شيئاً واحداً، ويحبون غذاءاً واحداً، ولا يرغبون إلاّ بعمل واحد! وبديهياً ستكون حياة كهذه سريعة الانقراض، ولو افتُرض لها الدوام، فإنّها ستكون متعبة ورتيبة وفاقدة لكل روح. وبعبارة أشمل سوف لا يبعدها عن الموت بوْنٌ شاسع. وعلى هذا، فحكمة وجود التفاوت في الاستعدادات المستتبعة لهذا التفاوت قد ألزمتها ضرورة حفظ النظام الاجتماعي، وليكون التفاوت في الاستعدادات دافعاً لتربية وإنماء الاستعدادات المختلفة للأفراد.
ولا يمكن للشعارات الكاذبة أن تقف في وجه هذه الحقيقة التي يفرضها الواقع الموضوعي أبداً. ولا ينبغي أن نفهم من هذا الكلام أنَّنا نريد منه إيجاد مجتمع طبقي أو نظام استغلالي واستعماري، لا. أبداً.. وإنّما نقصد بالاختلافات التفاوت الطبيعي بين الأفراد (وليس المصطنع) الذي يعاضد بعضه الآخر ويكمله (وليس الذي يكون حجر عثرة في طريق تقدّم الأفراد ويدعو إلى التجاوز والتعدّي على الحقوق). إنّ الاختلاف الطبقي (والمقصود من الطبقات هنا: ذلك المفهوم الاصطلاحي الذي يعني وجود طبقة مستغِلة وأخرى مستغَلة) لا ينسجم مع نظام الخليقة أبداً، ولكنَّ الموافق لنظام الخليقة هو ذلك التفاوت في الاستعدادات والسعي وبذل الجهد، والفرق بين الأمرين كالفرق بين السماء والأرض - فتأمل. وبعبارة أخرى، إن الاختلاف في الاستعدادات ينبغي أن يوظف لخدمة مسيرة البناء، كما في اختلاف طبيعة أعضاء بدن الإنسان أو أجزاء الوردة، فمع تفاوتها إلاّ أنّها ليست متزاحمة، بل إن البعض يعاضد البعض الآخر وصولاً للعمل التام على أكمل وجه.
المصدر:الكشكول العقائدي، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي