ولادته ونشأته :
ولد الشيخ الجبعي العاملي سنة 911 هـ , ونشأ في أُسرة علمية فاضلة ، يكفي أنّ ستّة من آبائه وأجداده كانوا من العلماء الفضلاء ، وكان قد اجتمع لديه عاملان مهمَّان ، نهضاً به إلى تسلق سنام المجد وهما : الأوّل : الجو العلمي الذي تأثّر به فبَلوَر ذهنيته ، ونمى فيه مواهب الفقاهة والمعرفة
الثاني : الحالة الروحية التي كان يتمتّع بها الشهيد الثاني منذ صباه ، فقد بكر بختم القرآن الكريم ، والتوجّه العبادي . وإلى جانب هذين العاملين كانت الهجرة من وطنه طلباً للعلم سبباً آخر في ارتقائه مدارجَ المعرفة ، فسافر إلى قرية ميس ، وهي إحدى قرى جبل عامِل في جنوب لبنان ، ولم يكن تجاوز سِنَّ المراهقة ، فأكمل دراسته المعمّقة مشفوعةً بالبحث الجاد ، والمراجعة المركزة ، فقطع مراحلَ عديدة في مدّة قصيرة ، وهو في شوق إلى العلم ، وحُسن استماعٍ لحديث الأكابر ، وكان شجاعاً في ساحات الحوار والمباحثة ، يُفيد ويستفيد .
رحلاته :
قضى قرابة ثلاثين عاماً من عمره في أسفار ورحلات ، فمنها العلمية ، حيث درس خلالها على أفضل العلماء ، ودرَّس جمعاً غفيراً ، ومنها العبادية ، تشرَّف فيها بالحج والعمرة ، وزيارة بيت المقدِس ، وزيارة العتبات المقدّسة في مدينة النجف الأشرف ، ومدينة كربلاء والكاظمية وسامراء بالعراق . وكانت سفراته العلمية إلى ميس ، وكرك نوح ، وجُبَع ، ودمشق ، ومصر ، والحجاز ، وبيت المقدس ، والروم ، وحلب ، وأسكدار ، وبعلبك ، وغيرها ، حتّى لم يُبقِ السفر من عمره إلاّ عشر سنوات قضاها مقيماً في بلاده .
سيرته :
يحدّثنا تلميذه ابن العُودي فيذكر : أنّه إذا اجتمع بالأصحاب عَدَّ نفسَه واحداً منهم ، ولم يَمِل إلى تمييز نفسه بشيء عنهم . وقد شاهده ابن العودي نفسه ينقل الحطب لعياله في الليل على حمار ، ويصلّي الصبح في المسجد ، ثمّ يشتغل بالتدريس بقيّة نهاره ، وأنّه كان يصرف أوقاته في الطاعات وتهذيب النفس ، كما كان يصرفها في المطالعة والبحث والدرس . كما استطاع الشهيد الثاني ( قدس سره ) أن يصلح مجتمعاً غارقاً في الجهل والفساد ، فبثَّ فيه الخير والنور والفضيلة ، وأحيا فيه معالمَ الدين التي عَفَت آثارها ، مُجدِداً شعائر السُنن الحنيفية ، ثمّ كان منه أن عَمّر مساجد الله ، وأشاد بنيانها ، ورتّب وظائف الطاعات فيها معظِّماً شأنها ، آمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر ، مرشداً أصحابَ العبادات في مناسكهم وشعائرهم ، مخلصاً لله تعالى بأعماله ، فتأثَّرت القلوب بأقواله . وما امتاز به الشهيد الثاني أيضاً هو إخلاصه لعقيدته ، وغَيرته على دينه ، وجهاده وتفانيه من أجل الحق الإلهي حتّى شرّفه الله تعالى بخاتمة مباركة .
أقوال العلماء فيه :
1ـ قال ابن العُودي وهو تلميذه : كان الشهيد الثاني شيخ الأُمّة وفتاها ، مَلك من العلوم زِماماً ، وجعل العكوف عليها إلزاماً ، زرع أوقاته على ما يعود نفعه عليه في اليوم والليلة ، أمّا النهار ففي تدريسٍ ومطالعة ، وتصنيف ومراجعة ، وأمّا الليل فله فيه استعداد كامل ، لتحصيل ما يبتغيه من الفضائل . 2ـ قال الشيخ الحر العاملي : أمره في الفقه ، والعلم ، والفضل ، والزهد ، والعبادة ، والورع ، والتحقيق ، والتبحّر ، وجلالة القَدر ، وعِظم الشأن ، وجمع الفضائل والكمالات ، أشهر من أن يُذكر ، ومصنّفاته مشهورة . كان فقيهاً مجتهداً ، ونحوياً حكيماً ، متكلّماً قارئاً ، جامعاً لفنون العلوم ، وهو أول مَن صنَّف من الإمامية في دراية الحديث .
مكانته العلمية :
يمكن تلخيص الخصائص العلمية للشهيد الثاني بما يأتي :
أوّلاً : إحاطته بثقافات عصره وآراء المذاهب الإسلامية كلّها ، وقد تسنَّى له ذلك بتواضعه وشوقه للاطلاع العلمي النزيه ، إضافةً إلى رحلاته التي التقى فيها بجملةٍ من علماء المسلمين على اختلاف مشاربهم
ثانياً : تفوّقه العلمي اللافت ، فقد بلغ في بعض المجالات ما لم يبلغه الأوائل قبله ، وجمع بين دقّة الملاحظة وعمق النظر ، كما ألمَّ باختصاصات متعدّدة من حقول المعرفة ، وأحاط بالثقافات الإنسانية في عصره ، وتضلّع في الفقه ، والأُصول ، والحديث . كما درس علوم الهيئة ، والفلَك ، والطب ، والرياضيات ، والأدب ، والفلسفة ، واللغة ، والنحو ، والصرف ، والبلاغة ، والشعر ، والقراءات القرآنية ، وكذلك ألمَّ إلمامة واسعة بالعلوم العقلية في وقته ، من منطق وكلام .
مؤلفاته :
نذكر منها ما يلي : 1ـ الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية . 2ـ مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام . 3ـ تمهيد القواعد الأُصولية والعربية . 4ـ التنبيهات العَلية على وظائف الصلاة القلبية . 5ـ مُنية المريد في آداب المفيد والمستفيد . 6ـ مسكن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد . 7ـ جوابات المسائل . 8ـ الفوائد الملية في شرح النَفلية . 9ـ حقائق الإيمان . 10ـ الدراية . 11ـ غُنية القاصدين في معرفة اصطلاحات المحدِّثين . 12ـ منار القاصدين في معرفة معالم الدين . 13ـ كشف الرِيبة عن أحكام الغِيبة .
شهادته :
بالرغم من الروح الإنسانية والأخلاقية التي تحلَّى بها الشهيد الثاني مع المسلمين المخالفين له في الرأي ، إلاّ أنَّه لم يسلم من الضغط الشديد ، والمراقبة الخانقة ، وإحاطة العيون والجواسيس بمنزله ، حتى اضطرَّه ذلك إلى ترك مدينة بعلبك سنة ( 955 هـ ) ، والرجوع إلى بلدته جُبَع ، ولم يَنتهِ الحقد الدفين في قلوب أعدائه ، فاغتاله أحد أزلام ملك الروم بوشايةٍ من قاضي مدينة صَيدا ، وذلك سنة 965 هـ .
* المصدر : موقع الجمعية العاملية لإحياء التراث