صاحب الخُلُق العظيم
إنّ نبيّنا الأكرم (ص) يتصدّر قائمة الأنبياء والأولياء من خلال شخصيته العظيمة وحلمه اللامتناهي وخُلقه الفريد، ممّا يوجب علينا نحن المسلمين الاقتداء به امتثالاً لقوله تعالى: {لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ليس فيما نؤديه من صلوات معدودة فحسب، بل في سلوكنا أيضاً وأقوالنا وحسن عشرتنا ومعاملتنا، وهو ما يستدعي منّا حقّ المعرفة له. لقد اجتمعت في النبي (ص) كافة صفات الإنسان الكامل. ولسوف أتحدث عن جانب من مميزاته الأخلاقية باختصار لأنّ المرء يحتاج إلى ساعات وساعات ليدخل إلى العالم الأخلاقي الّذي تفرّد به الرسول (ص). نستطيع أن نقسّم أخلاق النّبي (ص)، باختصار، إلى قسمين: «أخلاق شخصيَّة» و«أخلاق حكوميّة»، أي أخلاقه كإنسان وأخلاقه ومميّزاته وسلوكه كحاكم. وهذا بالطبع غيضٌ من فيض شخصيته التي تشتمل على الكثير من المميزات البارزة والجميلة. ا
الأخلاق الشخصية :
لقد كان النّبي (ص) رجلاً أميناً، صادقاً، صبوراً، وحليماً، كما كان شهماً وحامياً للمظلومين على الدّوام. كان (ص) يتجنَّب الإساءة والتجريح. وكان معروفاً لدى الجميع بالعفّة والحياء والنجابة في ظل جوّ أخلاقي فاسد كان يخيّم على الحجاز قبل الإسلام، ثم إنه كان متميزاً بنظافة الظاهر. كما كان النبي (ص) شجاعاً لا يفتّ من عضده كثرة العدوّ، وكان صريحاً زاهداً وحكيماً في حياته. كان يتجنب الثأر والانتقام، وكان من صفاته الرحمة والمداراة، وكان ذا أدب جمّ لا يمدّ رجله أبداً في محضر الآخرين. كل هذه الخصال كانت متجسّدة في شخصية الرسول الأكرم (ص) في شتى مراحل حياته منذ صباه وحتى وفاته في الثالثة والستين من عمره. ولتبسيط الحديث في بعض هذه الخصال، نستطيع القول إن النبي (ص) كان شديد الأمانة حتى لقّبه الناس في الجاهلية بلقب «الأمين» فكانوا يودعون لديه أماناتهم المهمة حتى بعد بداية الدعوة الإسلامية وتأجُّج نار العداء والبغضاء مع قريش، وهم أعداؤه! ولهذا فإنكم سمعتم بأن الرسول (ص) ترك أمير المؤمنين(ع) في مكة عند هجرته إلى المدينة لكي يؤدّي للناس أماناتهم وكان منهم بعض الكفار والذين ناصبوه العداء. لقد كان النبي (ص) شديد التحمل لا تنال منه الشدائد ولا تستفزّ غضبه. وكان الأعداء يؤذونه في مكة لدرجة أن أبا طالب استشاط غضباً منهم وجرّد سيفه ذات مرة وتوجّه إليهم مع أحد مواليه وفعل بهم ما فعلوه مع رسول الله (ص) وتَهدّدَ كل من يعترض سبيله بضرب عنقه، بينما كان النبي (ص) قد تحمل كل ذلك بحلم وأناة.
أفضل شريك :
كان الرسول (ص) يعمل بالتجارة في الجاهلية وكان يسافر إلى الشام واليمن ويسهم في قوافل التجارة ويشارك الآخرين. ويقول أحد الذين شاركوه في زمن الجاهلية: لقد كان أفضل شريك لي، فلم يكن يعاند ولا يجادل ولا يلقي بعبئه على كاهل الآخرين، ولا يتعامل مع الزبائن بسوء، ولا يبيع لهم بثمن باهظ، ولا يكذب عليهم؛ وكان يعامل الناس معاملة حسنة؛ فقد كان دائماً طلق الوجه أمام الناس، ولم يكن يبدي لهم ما يعتمل في صدره من هموم وأحزان. وكان لا يسمح لأحد أن يسبّ الآخرين في مجلسه، ولم يكن هو نفسه يسبّ أحداً أو يتحدث بما يسيء للآخرين. وكان يداعب الأطفال، ويعطف على النساء، ويحنو على الضعفاء، ويمازح أصحابه. وكان فراشه ووسادته جلداً محشوّاً بألياف النخيل. وكان أغلب طعامه خبز الشعير أو التمر. ولقد كتبوا أنه لم يُشبع بطنه أبداً. وتقول إحدى زوجاته: ربما كان يمرّ الشهر ولا يرتفع لنا دخان. وكان النبي (ص) يركب الدابة بلا سرج ولا ركاب، ويمتطي الفرس العادي، وكان متواضعاً، حيث كان يصلح نعله بيده ويرقعه بنفسه.
إستقامة لا نظير لها :
كان (ص) قدوة في العبادة لدرجة أن قدميه كانتا تتورمان من طول الوقوف في محراب العبادة. وعندما كان أصحابه يقولون له: يا رسول الله، لماذا كل هذا الدعاء والاستغفار والعبادة وقد غفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟! فإنه كان يجيب: «أفلا أكون عبداً شكوراً». وكانت استقامته (ص) بلا نظير في تاريخ البشرية، وهو ما جعله قادراً على ترسيخ هذا الكيان الإلهي الخالد والعظيم. وهل كان ذلك ممكناً بلا استقامة؟! فباستقامته بات واقعاً ملموساً. لقد ربّى أصحابه الكبار وأعدّهم باستقامته. ورفع عماد فسطاط المدينة الإنسانية الخالدة وسط صحراء الحجاز المقفرة {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (الشورى:15) فهذه أخلاقيات الرسول (ص) الشخصية.
الأخلاق الحكومية :
وأما خُلُقه كحاكم، فقد كان عادلاً ومدبّراً؛ فالذي يقرأ تاريخ هجرته إلى المدينة، وتلك الحروب والغزوات الوحشية القبلية، وإخراج العدو من مكة إلى الفيافي، وتلك الضربات المتوالية، وذلك الصراع مع العدو المعاند، فإنه سيلاحظ مدى ما كان يتّصف به من تدبير شديد وحكيم وشامل مما يبعث على الدهشة. وكان (ص) شديد الرعاية والحفاظ على القانون، ولم يكن يدع أحداً ينقض أحكام الشريعة أو يفرّط بالقانون، فضلاً عن نفسه، وكان يعتبر نفسه خاضعاً للقانون كما ينص القرآن على ذلك. فكان يطبق القانون على نفسه كما يطبقه على سواه بلا أدنى تجاوز. ومن خلقه (ص) أيضاً كحاكم، أنه كان يرعى العهود، ولم ينقض عهداً له أبداً. وعندما نقضت قريش عهده فإنه ظل راعياً له، وكذلك كان الحال مع اليهود الذين نقضوا عهده مرة. كما كان (ص) حافظاً للسر؛ فعندما خرج لفتح مكة فإنه لم يُعلِم أحداً بوجهته، فعبّأ الجيش بأجمعه ثم أمرهم بالخروج. وعندما سألوه: إلى أين؟ فإنه أجابهم: سيتضح ذلك فيما بعد. فلم يُخبر أحداً بأنه قاصد مكة، لدرجة أن أهل مكة لم يعلموا بقدومه حتى اقترابه منها! ومن أهم مميزات سيرة النبي (ص) أنه لم يكن ينظر إلى أعدائه نظرة واحدة؛ فبعضهم كانوا له أعداءً ألدّاء، لكنه كان لا يمسّهم بسوء إذا لم يجد منهم خطراً. وأمّا الذين كان يلمس خطراً فيهم فإنه كان يراقبهم ويقف منهم على حذر.
رحيماً.. شديداً :
إن الرسول (ص) تحمّل يهود المدينة، وفتح صدره لمن استجار به ومن لم يؤذه من قريش، كما عفا عن أهل مكة عند الفتح حتى إنه أعطى بعضهم شيئاً من الامتيازات لأنهم لم يعودوا يشكلون خطراً. ولكنه مع ذلك تعقّب فلول الأعداء الألدّاء الذين لمح فيهم الغدر والخطر والخيانة وقمعهم بشدّة. وقد كان هذا خلقه (ص) كحاكم وقائد؛ فكان شديداً على الكفار رحيماً بالمؤمنين، وخاضعاً ومطيعاً لأمر الله وعبداً له بمعنى الكلمة، وكان حريصاً على مصالح المسلمين.. ولم يكن ما تقدّم سوى خلاصة من أخلاقه (ص). اللهم إنّا نسألك وندعوك أن تجعلنا من أمّه محمد (ص). اللهم وأحينا وأمتنا على محبته، وأرنا وجهه الشريف والمنير يوم القيامة، وارزقنا العمل بوصاياه والتشبّه بخُلقه، واجعلنا من أتباعه المخلصين والعارفين الحقيقيين لقدره ومنزلته.
المصدر: من خطبة للإمام الخامنئي "دام ظله" في ذكرى رحيل النبي (ص) في صفر من سنة 1421 هـ.