البعد التربوي في حياة الرسول الاكرم (ص)
السلوك والتعامل مع العائلة:
قليلًا ما تشاهدون أمثال هذا الإنسان بين البشر أصحاب العواطف فيما له علاقة بالحياة العائليّة وباعتباره والدًا، لقد كان هذا الإنسان عظيمًا ومجاهدًا ومضحيًّا في ساحات النضال، وحنونًا عطوفًا رحيمًا. قد سمعتم كيف كان يتعامل الرسول الأكرم مع الحسنين - حفيديه - وهكذا كان يتصرّف مع الأطفال الآخرين، حتّى مع الأطفال الأجانب. كان الرسول يسير نحو المسجد وكان الأطفال يلعبون في الطريق. وهناك خاطبه أحد الأطفال: إنّك يا رسول الله تأخذ الحسن والحسين على كتفيك، فخذنا نحن أيضًا. لم يمانع الرسول فقام برفع طفلٍ إلى هذا الكتف وآخر إلى ذاك، ثم أنزلهما بعد أن مشى قليلًا ثمّ طلب منه طفلان آخران أن يصعدا على كتفيه. كان يرغب أن يحمل الأطفال. وكان وقت الصلاة يأخذ بالاقتراب. وفي هذه الحالة جاء بعض الأصحاب الذين إمّا كانوا يعبرون من المكان أو جاؤوا من المسجد لتفقّد الرسول، فوجدوه يحمل الأطفال فعاتبوهم وأنزلوهم عن كتفيه وتابع الرسول مسيره إلى المسجد. هذا، نموذج عن سلوك الرسول مع الأطفال. كان في عائلته مظهر العاطفة باعتباره والدًا، إذ ليس صحيحًا أنّه إذا كنّا من أصحاب الجهاد والعمل والحركة في ساحة الحرب وتحمّل المصائب فعلينا أن نعفي أنفسنا من العاطفة والمحبة والليونة والمظاهر الإنسانيّة الطبيعيّة في الإنسان، كان الرسول في المنزل، مظهر العاطفة والمحبّة والإحساس المرهف. وفي روايةٍ أنّه عندما نزلت آية ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضً﴾،سورة النور، الآية 63. أصبحوا ينادونه يا رسول الله ولا ينادونه باسمه. دخل الرسول المنزل بمجرّد أن شاهدته فاطمة الزهراء عليها السلام قالت: يا رسول الله السلام عليكم كانت هي أيضًا تنادي الرسول بعبارة يا رسول الله احتضن الرسول ابنته ولاطفها وقال لها: يا ابنتي ناديني يا أبتي، ولا تقولي يا رسول الله! هذا أعذب عندي. عندما كان يريد السفر، كان آخر شخص يراه هو فاطمة الزهراء. وعندما كان يرجع، كان أوّل من يزور فاطمة الزهراء. ... لكنّه مع تلك العاطفة الشديدة تجاه ابنته -فاطمة الزهراء - كان يقول إنّه اذا سمع أنّها استعارت وسائل بيت المال وأدخلتها المنزل، لجازاها كما يجازي الآخرين. "إنّني لا أُغنِ عنك من الله شيئًا "(صحيح مسلم،). كان مع كلّ ما يحمل من محبّة شديدة لابنته، على استعدادٍ للوقوف بوجهها إذا ناقضت العدل بتصرّفٍ ما أو إذا تجاوزت حقًّا.
التعامل مع الناس:.
عندما كان يرى رسول الله (ص) شخصًا قد ظهر عليه التعب في حفر الخندق (أثناء معركة الخندق)، وبدا أنّه لم يعد باستطاعته التقدّم، كان يذهب ويأخذ المعوَل منه ويبدأ العمل، أي إنّه لم يكن حاضرًا من خلال إصدار الأوامر فقط، بل كان حاضرًا بجسده بين الجموع. كانت إدارته الاجتماعيّة والعسكريّة في أعلى مستوياتها، فكان يلاحق كافّة الأمور. طبعًا كان المجتمع صغيرًا، المدينة وأطرافها، وبعد ذلك أضيف إليه مكّة ومدينةً أو مدينتين أخريين، إلّا أنّه كان مهتمًّا بأمور الناس وكان منظّمًا ومرتّبًا. وقد أجرى في ذاك المجتمع البدوي، الإدارة والحساب والمحاسبة والتحفيز والتنبيه بين الناس. هذه هي الحياة الاجتماعيّة للرسول التي يجب أن نقتدي بها جميعنا. إن الإدارة الإسلاميّة، تعني الأخلاق الإنسانيّة بالإضافة إلى القدرة الإداريّة. يطلب الله تعالى من الرسول أن يلتفت إلى هؤلاء الناس ويهتمّ بهم. بعد حرب أُحد شعروا بالهزيمة والألم، لذلك شاورهم، تعامل معهم بإحسان،فالإدارة عبارة عن: الأخلاق الحسنة، القاطعيّة، والقوة الإداريّة، والتوكّل على الله في كلّ حال، وطلب الخير من خالق العالم والاعتماد عليه الأصول التي يجب مراعاتها في الحرب: من جملة وصايا الرسول في ساحة الحرب، للأشخاص الذين كانوا يذهبون للحرب، الرحمة بالنساء والأطفال، والشهامة في التعامل مع جنود العدوّ، وعدم قطع الماء عنهم، وعدم منعهم من الطعام، وقبول استسلام البعض، وقبول من ادّعى الإسلام حتّى لو كان الأمر في أوج المعركة، أي الابتعاد بالكامل عن حالة الانتقام والخشونة. كان الكفّار الذين لا يشعرون بخصومة وعداء مع الرسول، يأتون إليه، فكان عطوفًا رحيمًا معهم إلى مستوى أنّهم كان يخجَلُون من ذلك. كان رسول الله قائدًا عسكريًا. وكان التنظيم العسكري في القديم يقتضي وضع القائد في مكان ليبقى بعيدًا عن الخطر. السبب في ذلك واضح، وفيه وجه معقول ومنطقي، فلو كان القائد في المقدمة ثم قُتل، عند ذلك يضطرب الجهاز العسكري بأكمله، وأمّا إذا كان في الخلف كان بإمكانه الاستمرار في المعركة حتّى لو قُتل نصف الجنود، وعلى الأقلّ بإمكانه الانسحاب والنجاة، ولكن عندما يُقتل القائد، لا تختلط الأمور فحسب، بل قد تكون الخسائر أكبر. أمّا رسول الله الذي كان يتمتّع بقوى غيبيّة فوق المعتاد، فكان يتقدّم الجميع، ليحارب عندما يصبح الأمر صعبًا وعندما يبدأ العدوّ هجومًا كبيرًا، وعندما لا يبقى باستطاعة المقرّبين أمثال أمير المؤمنين والحمزة والآخرين التحمّل والمقاومة فيلجؤون إليه.
أسلوب التعامل مع المنهزمين والأسرى:
كانوا يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ببعض المسيحيّين الذين يتمّ أسرهم في بعض الحروب - سواء من القبائل العربيّة أو غير العربيّة - حيث كانوا يتأثّرون بأخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يدفعهم إلى دخول الإسلام، وقبول دين الرسول، هذه هي ليونة وعطف النبيّ25. تنتهي الحروب إلّا أنّ التجارب تبقى. الأحداث الكبيرة تحمل دروسًا للبشريّة وسيبقى هذا الدرس في صدور وأذهان البشريّة وهو أنّ حضارة، رغم مع كلّ ما فيها ومع كلّ ادّعاءاتها، خرجت مهزومة من ساحة الامتحان من خلال الأعمال التي يمارسها هؤلاء (الأمريكيون)، من إشعال الحروب والظلم وعدم العدالة والغرور والسلوكيّات غير العاقلة. ومن أبرز تجارب هذه الحضارة، إشعال الحروب، تهديد السلام، قتل الأبرياء، صرف رساميل طائلة على الحروب تحت مبرّرات لا يمكن الوثوق بها. قارنوا بين هذه وبين الحضارة الإسلاميّة عندما فتح المسلمون المناطق الغربيّة في العالم الإسلامي- أي مناطق الروم وسوريا اليوم - في زمان الخلفاء الراشدين، حيث تعاملوا مع اليهود والمسحيّين بأسلوب جعل الكثيرين منهم يتوجّهون نحو الإسلام.. يذكر التاريخ أنّه عندما دخل المسلمون "روما"، كان اليهود يردّدون عبارة: "والتوراة"، قسمًا بالتوراة إنّنا لم نرى يومًا جميلًا في حياتنا كهذا اليوم.
العزّة :
كان العلم لدى الرسول مترافقًا مع الأخلاق، الحكومة مع الحكمة، عبادة الله مع خدمة الخلق، الجهاد مع الرحمة، عشق الله مع عشق مخلوقاته، العزّة مع التواضع، التدبير اليومي مع بُعْد الرؤية، الصداقة مع العمق السياسي، استغراق الروح بذكر الله مع الاهتمام بما هو في مصلحة وسلامة البدن. كانت الدنيا والآخرة مترافقتان والأهداف الإلهيّة المتعالية مع الأهداف البشريّة الجذّابة كذلك.
الرحمة والكرامة :
يمكن تشبيه الرسول الأكرم بأكثر النجوم تلألؤًا في كائنات عالم الوجود والإشارة إلى ذاك الوجود العظيم والمقدّس بهذا العنوان. لماذا نقول النجم المتلألئ ولا نقول الشمس؟ لأنّ الشمس جسم وجرم مشخّص ومعيّن، مضيئة وذات عظمة، إلّا أنّها جرم وكرة سماويّة، في النجوم التي تشاهدونها، هناك نجوم تشكّل مجرّة، أكبر آلاف المرّات من المجرّات التي نراها فوق رؤوسنا في السماء ليالي الصيف. المجرّة أي المجموعة التي تحتوي على آلاف النجوم والآلاف من الشموس. إنّ وجود الرسول شبيه بوجود المجرّة وفيه آلاف النقاط المضيئة بالفضيلة.
الوحدة :
باشر الرسول عمله بمجرّد دخوله المدينة، فبنى مسجدًا، ثم خطّط لإدارة وسياسة ذاك النظام، قد لا يتمّ الالتفات لو نظر الإنسان إلى كلّ واقعة على حدة، (لذلك) يجب أن يدقّق ويشاهد كيفيّة تنظيم العمل، كيف جرى القيام بكافّة هذه الأعمال، بأسلوبٍ يدلّ على التدبير والوعي والحساب الصحيح. في البداية، تمّ إرساء الوحدة. لم يكن أهل المدينة قد أسلموا بأجمعهم، أكثرهم دخل الإسلام والبعض القليل بقي غير مسلم. فأوجد الرسول الأكرم ميثاقًا جماعيًّا عامًّا. ... الحركة الأخرى التي قام بها الرسول، هي إيجاد الأخوّة. من أهم المصائب التي ابتلى بها المجتمع العربي المتعصّب والجاهلي في ذاك الزمان، الأرستقراطيّة، والعصبيّات الخرافيّة، والغرور القبلي، وانفصال طبقات الناس المختلفة بعضها عن بعض. عندما دعا الرسول إلى الوحدة، فقد داس على ذلك كلّه أفضليّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه في أوج عالم الخلق من ناحية الشخصيّة، سواء في تلك الأبعاد التي يمكن للبشر فهمها، أمثال المعايير الإنسانيّة المتعالية: العقل، والتدبير، والوعي، والكرم، والرحمة، والعفو، والقاطعيّة والأمور الأخرى من هذا القبيل، أم في الأبعاد التي لا تحيط بها الأذهان البشريّة: الأبعاد التي تبيّن تجلّي الاسم الأعظم للحقّ في وجود الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ومقام قرب الرسول من الله تعالى، وهي الأمور التي نسمع عنها ونعلمها بالاسم والشكل فقط، أمّا حقيقتها فهي معلومة لله تعالى والأولياء العظام، كذلك رسالة ذاك العظيم التي هي أسمى رسالة وأهمّها لسعادة الإنسان، رسالة التوحيد، رسالة الارتقاء بالمرتبة الإنسانيّة.
*المصدر: كتاب الشخصية القيادية لرسول الإسلام محمد (ص) في فكر الإمام الخامنئي دام ظله