إن القرآن الكريم أعظمُ آيات الله سبحانه وتعالى، والحُجّة الإلهية المستمرّة إلى يوم القيامة، والسبيل للسّاعين إلى الكمال والمعرفة الحقّة المتجليّة بالتوحيد والذي يجسّد حقيقة الإيمان والإقرار بالعبودية الخالصة للذّات الإلهية المقدسة، وهو كتابٌ ينسجمُ مع الفطرة الإنسانية ومتطلّباتها، ويلامس وجدان الإنسان، فهو يضع له العلاج الشّافي الذي يدفع عنه القلق والإضطراب، ويرسم له البرنامج السلوكي الذي يزرع فيه الطمأنينة، ويُشرّع له الأحكام التي تنسجم مع احتياجاته النفسية والروحية والغرائزية، ويحثّه على سلوك طريق الآخرة مع دعوته لعدم نسيان حظّه من الدنيا.
لقد أحاط الله سبحانه وتعالى كتابه الكريم بعناية فائقة، حيث كان نزوله في شهر رمضان المبارك، الذي هو أفضل الشهور عنده جلّ وعلا, وخصّه بليلة القدر المُحاطة بكلّ الأسرار الإلهية، وكان تنزيله بواسطة أفضل الملائكة على متلقّيه، سيّد البشر وأحبّ خلق الله تعالى وخاتم الأنبياء سيّدنا محمد صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين. إذ يقول تعالى في كتابه العزيز: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هُدىً للمتقين" (1)، حيث أن لهذا التشريف البالغ للقرآن الكريم دلالات على قدسيته التي قد يصعب علينا إدراكها، ولكننا نتلمّس آثارها على حياتنا وأرواحنا.
ومن المؤكد أن تلاوة القرآن الكريم هي من أفضل الأعمال في شهر الصوم وضيافة الرحمن، فقد ورد في خطبة الرسول الأكرم: "من تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور".
لا شك بأن حفظ القرآن وتلاوته من المستحبات المؤكّدة التي حثّ عليها الشّارع المقدس، ووعد الحافظ والتالي بالأجر العظيم، ولكن ما هي القراءة المطلوبة والصحيحة؟ وهل المطلوب القراءة الصورية لإسقاط واجب، أم معرفة مخارج الحروف وأحكام الوقوف كافة للتلاوة المنشودة؟ فإذا كان هذا المقصود، فأين منه اعتبار القرآن الكريم كتاب هداية، كما ذكرت ذلك صراحةً الكثير من الآيات القرآنية، كقوله تعالى: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للنّاس وبيّنات من الهدى والفرقان"(2)، وقوله تعالى أيضاً: "يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم " (3)، وكثيرٍ من نظائر هذه الآيات الدالّة على أن للقرآن مقاصد إلهية تحتاج إلى أكثر من القراءة العابرة، بل إلى فهم مضامينها، وهذا ما يستلزم قراءة تأمليّة تسمح برسم المعاني القرآنية في وجدان القارىء، لتنير له سبل الهداية المنشودة، وتكون سبباً لتطهير الذات من أدرانها المختلفة، ولانعتاق الروح من أسْر الحياة المادية للولوج إلى ساحة الذات المقدسة.
وفي كتابه العزيز، يقول الله تعالى:"لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله" (4)، وهنا دعوة الى أن نتدبر ونتساءل: هل يكون الجماد أكثر خشية من الإنسان؟ ومن أين تتأتى هذه الخشية للإنسان؟ إن الخشية الحقيقية تتأتى من التدبّر والتفكّر أثناء التلاوة، فالقرآن خزائن العلم الإلهي كما ورد عن الإمام زين العابدين (ع) "فكلما فتحتَ خزائنه فينبغي لك أن تنظر فيها" (5)، والنظر المقصود هو التأمّل والتفكّر في كلام الحقّ تعالى الذي يؤدي إلى الخشوع والخضوع.
ويقول الله عزّ وجلّ في محكم كتابه: "أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها" (6). إنّ خشوع القلب وانفتاحه على كلام الله تعالى يجعلان القارىء يحسّ بأنه هو المخاطب المقصود بكل آية قرآنية، فيعيش حالة الخشوع ثم الخضوع والإنفراد مع الخالق العظيم الذي تجلّت قدرته المطلقة في جميع موجوداته، ويرفع حالات النقص الموجودة فيه، ويستشعر الحزن والندم على ما فرّط في جنب الله، وتبدأ عنده مرحلة الانعتاق من أسر الماديات الحياتية والسير نحو حالة العشق الإلهي واستنطاق القرآن الكريم أسراره الإلهية وأنواره المعنوية، حيث يقول تعالى: "إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سجّداً ويقولون سبحان ربّنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا" (7). إنّ الفهم الحقيقي للقرآن الكريم، كما هو تطهير للروح وعروج إلى ساحة الحق تعالى, هو أيضاً إنعكاس خارجي سلوكي قرآني للفرد المؤمن.
يقول الله تعالى:"ألم يأنٍ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق" (8)، ونقول بلى وربّي, في شهر الرحمة نتوب إليك خالقنا عن تقصيرنا في معرفة كتابك الكريم، الذي هو ذكر للعالمين، فاملأ قلوبنا خشية وإخلاصاً وفهماً لكتابك وانكساراً في ساحة لطفك, واجعل نصيبنا من قراءة كتابك في شهر استضافتك لنا تطهيراً لذواتنا المتعبة التي حطّت رحالها على مائدة فيضك الإلهي...
*المصدر : موقع الزكية الالكتروني
(1) سورة البقرة، الآية 2
(2) سورة البقرة, الآية 185
(3) سورة الأحقاف, الآية30
(4) سورة الحشر, الآية21
(5) بحار الأنوار، ج 92, ص 219
(6) سورة محمد, الآية24
(7) سورة الإسراء, الآيات 107، 108، 109
(8) سورة الحديد, الآية 16