وثقافة المقاومة لها جذورها في عقيدتنا الاسلامية التي تدعونا إلى عدم الاستكانة والركون للظلم والظالمين والطغاة والمغتصبين، لأن هذا الفعل يجعلنا مثلهم بل جزءاً منهم، وسيكون عقابهم عقاباً لنا كما قال تعالى "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار".
كما يأمرنا الإسلام أن نقاتل عندما يقاتلنا الآخرون ظلماً وعدواناً كما قال تعالى "اذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير"، بينما يرى في عدم رد الظلم والعدوان ذلاً وهوانا وخنوعاً، وهذا ما لا يليق بالمسلم المؤمن بدينه والملتزم بنهجه ان يصل إليه.
وقد أدرك الإمام الخميني (قده) عقم ثقافة الذل والعار، وكيف أنها كانت السبب في إخضاع كل الدول العربية والإسلامية للقوى الاستعمارية والإستكبارية، وكيف كانت تلك القوى تمارس هيمنتها على مقدراتنا وعاداتنا وديننا، وتعتدي على كرامتنا على طريقة منطق "الغالب والمغلوب" أو "المنتصر والمهزوم". حيث يفرض الغالب والمنتصر ما يريد، وما على المغلوب سوى القبول، وإلا فالقوة هي السبيل لفرض ما يريد.
وهذه الثقافة هي التي رفضها الإمام الخميني المقدس، وسعى إلى نشر الثقافة البديلة وهي "ثقافة الممانعة والمواجهة" التي تستمد جذورها من العقيدة الاسلامية الأصيلة المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية وأحاديث وأفعال الأئمة (ع)، وأبرز كل ذلك هو "واقعة عاشوراء" التي ضحى فيها الإمام الحسين (ع) بنفسه وقسم من أولاده وإخوته وصفوة من أرحامه وأصحابه، واطلق الشعار "هيهات منا الذلة" عندما قال بأن عدوه "يزيد" قد ركز بين اثنتين "إما السلة وإما الذلة"، فكان الجواب الحاسم هذا الشعار هو التجسيد الحي والعملي والفكري والايماني والعقائدي لثقافة المقاومة القائمة على الايمان بالله وبرسوله (ص) وبالاعتماد والتوكل على الله، والثقة الكاملة به وبأنه القادر على نصرة عبده عندما ينصر العبد ربه كما قال تعالى "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم".
وكلما انتقى الإنسان إحدى هاتين الثقافتين وتعمق في السير فيها فإنها تصبح جزءاً من شخصيته وتركيبته النفسية والعملية وفق القناعات والأسس التي يستند إليها، وقد يغير البعض ثقافته وفقاً للظروف المعاشة او الطارئة التي قد تلعب دوراً معيناً في تغييرها، وقد قال تعالى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
ونحن نجد في لبنان أن أول من قام بجهدٍ كبير وعمل أساس في مجل إرشاد الناس نحو "ثقافة المقاومة" هو الإمام المغيب السيد موسى الصدر الذي عايش الفقر والحرمان والجوع الذي كان يعاني منه القسم الأكبر من اللبنانيين في البقاع وعكار والجنوب وحزام البؤس حول بيروت الذي كان يتألف من أحياء فقيرة تعاني الكثير من الإهمال والإجحاف في مجال الحقوق والخدمات، كما عايش الإمام الصدر الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة على جنوب لبنان وغيره من المناطق فيه، والناس لا حول لها ولا قوة، في مقابل ذلك كله، ومن هنا سعى الإمام الصدر إلى تأسيس "حركة المحرومين" للدفاع عن حقوق الفقراء في كل مناطق لبنان وأسس "أفواج المقاومة اللبنانية" لتكون ذراعاً عسكرية تدافع عن لبنان في مواجهة اعتداءات الكيان الغاصب.
وقد ورد في البند السابع من ميثاق حركة المحرومين "وفلسطين الأرض المقدسة التي تعرضت ولم تزل لجميع أنواع الظلم. فلسطين وأهلها في قلب حركتنا وعقلها، وأن السعي لتحريرها أولى واجباتها، والوقوف إلى جانب شعبها وحماية مقاومتهم وصيانتها والتلاحم معهم شرف الحركة وإيمانها، ولا سيما ان الصهيونية تشكل الخطر الفعلي والمستمر على لبنان وعلى القيم التي نؤمن بها وعلى المنطقة بأسرها وعلى الإنسانية، وأنها ترى في لبنان بتعايش الطوائف فيه تحديا دائماً لها وسنداً حياً لإدانة كيانها".
لقد كان السيد موسى الصدر ثاقب البصيرة ويعيد النظر في هذا المجال، وكان يشدد على الخطر الذي يمثله الكيان الغاصب وحماته ورعاته الدوليون وعلى رأسهم أميركا، على صيغة التعايش في لبنان وعلى المنطقة العربية بأسرها، حيث كانت "اسرائيل" تسعى لإثارة النعرات والفتن بين أفراد المجتمع الواحد وبين بناء الشعوب العربية وأنظمتها خدمة لمخطط ثقافة الاستسلام والخضوع ... بداعي عدم القدرة على هزيمة "اسرائيل" التي تملك جيشاً لا يقهر، وهو الذي هزم جيوش دول الطوق مجتمعة عام 1967 واحتل الضفة الغربية وقطاع غزة وصحراء سيناء حتى قناة السويس فضلاً عن الجولان في سوريا ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا في لبنان، وأذل العرب والمسلمين باحتلاله القدس الشريف ومسجدها الأقصى القبلة الأولى للمسلمين وثالث الحرمين الشريفين.
ونرى ثقافة المقاومة واضحة في كلام السيد موسى الصدر عندما قال لياسر عرفات في مهرجان الأونيسكو الذي اقيم في بيروت قبل اختفائه بعدة أشهر "إعلم يا أبا عمار أن شرف القدس يأبى أن تتحرر إلا على أيدي المؤمنين".
وفي سنة 1978 وفي آخر آب اختفى السيد موسى الصدر ورفيقاه وما زالت القضية لغزاً عالمياً لم يتم حله حتى الوقت الحاضر، ولا نستبعد ان يكون لاختطافه علاقة بالخطر الذي شعرت به القوى المعارضة لثقافة المقاومة والممانعة.
وجاء انتصار الثورة الاسلامية عام 1979 في ايران بقيادة الإمام الخميني المقدس ليعوض غياب السيد موسى الصدر من جهة، وليدفع بفكرة "ثقافة المقاومة" إلى مراحل متقدمة جداً، ولينتقل من حالة الفكر والتنظير إلى حالة الحركة والتكاثر على مستوى العالمين العربي والاسلامي، ومن هنا نجد أن موشي دايان وهم أحد أهم زعماء الكيان الغاصب قد قال عند انتصار الثورة "لقد دخلت اسرائيل في عصر الظلمات" كتعبير على ان انتصار تلك الثورة بدّل موازين القوى في المنطقة من كونها لمصلحة "اسرئيل" بالمطلق إلى حالة أخرى لا تتوافق مع المشروع الاستكباري والصهيوني.
وكان من تبعات "ثقافة الاستسلام" الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 والدخول إلى العاصمة "بيروت" وخروج منظمة التحرير الفلسطينية وكل فصائلها المقاومة مع اسلحتها من لبنان إلى العديد من الدول العربية، وظن الكيان الغاصب أنه قد أنهى بذلك الحلقة الأخيرة من حلقات "ثقافة المقاومة" في هذه المنطقة من العالم الاسلامي.
إلا أن نشوء المقاومة الاسلامية في لبنان منذ أول ايام الاجتياح والبدء بالقيام بالعمليات الجهادية ضد الاحتلال العسكري للبنان قد أعاد لثقافة المقاومة والممانعة وجوداً جديداً قائماً على الإيمان بالله وبوجوب الجهاد ضد العدو المحتل، واستمرت هذه المقاومة بفعالية وقوة وازدادت قوة وبأساً وتجذراً يوماً بعد يوم وسنة بعد سنة، وحاول الكيان الغاصب ضرب هذه المقاومة الاسلامية عامي 1993 و1996 وخرجت من هاتين المعركتين أقوى وأشد وأكثر تصميماً على المضي في سبيل الجهاد والمقاومة حتى فرضت على الكيان الغاصب الاندحار والهزيمة في 25 أيار من العام ألفين، وكان هذا أول انتصار تحققه "ثقافة المقاومة والممانعة" ضد العدو الصهيوني منذ انشاء الكيان الغاصب عام 1948، وقد كان لذلك النصر أثاره المعنوية على العرب والمسلمين جميعاً، وأعطى لانتفاضة الشعب المظلوم في فلسطين المحتلة معيناً لا ينضب من المعنويات والآمال بتحرير الأرض والإنسان.
وبعد انتصار الألفين من خلال المقاومة الإسلامية صار لثقافة المقاومة اعتبار عند كل العرب والمسلمين، وبدأوا يشعرون أن زمن ثقافة الاستسلام لم يعد قضاءً مبرماً على أبناء الأمتين العربية والاسلامية، وأن هناك سبيلاً آخر يمكن سلوكه من أجل تحرير الارادة والقرار من هيمنة اميركا على مستوى العالم، والكيان الغاصب على مستوى العالم العربي.
وطبعاً لم يكن انتصار المقاومة الاسلامية في لبنان مقبولاً عند اميركا و"اسرائيل"، لأنه بدأ يؤسس لنهضة جديدة في المنطقة، وهذا يشكل خطراً على الهيمنة الاميركية والغطرسة الاسرائيلية، وبدأ الإعداد للتخلص من هذه المقاومة، خصوصاً بعد ان قويت شوكة المقاومة في فلسطين المحتلة ايضاً، ما اضطر العدو للانسحاب من غزة بلا قيد ولا شرط، وهو ما اعتبره أعداء ثقافة المقاومة أنه من انجازات انتصار المقاومة في لبنان، واستجابة حية وتجربة ناجحة لهذا الخيار.
من هنا جاء العدوان الصهيوني الأخير على لبنان في الثاني عشر من تموز من عام 2006 ليعطل خيار ثقافة المقاومة في لبنان، ويقضي عليه، وكانت الذريعة أسر جنديين من العدو في عملية جهادية قام بها مجاهدو المقاومة الاسلامية داخل الاراضي المحتلة في شمال فلسطين.
إن الفارق بين ثقافة المقاومة وثقافة الاستسلام هو ان ثقافة المقاومة يمكنها مع الصمود والإرادة والإيمان بالله وبالاعتماد عليه والثقة بقوة الحق وعدم الرضوخ للضغوطات أن تحقق الانتصار تلو الانتصار، بينما ثقافة الاستسلام لا تنتج إلا الذل والهوان والتحقير وعدم الاحترام من المستكبرين والطغاة لمن يستسلمون لهم.
لهذا نرى اليوم من خلال هذا العرض ان ثقافة المقاومة يجب ان تقتحم كل الأسوار، وان تخرق كل أنواع الحصار المفروض عليها في عالمنا العربي وعالمنا الاسلامي، لأن هذه الثقافة هي القادرة على أن تجلعنا أقوياء وقادرين على الدفاع عن حقوقنا، وان نسترد أراضينا المغتصبة، وأن نستحق احترام العالم لنا، لأن العالم الذي نعيش فيه لا يحترم إلا الأقوياء والقادرين على الدفاع عن حقوقهم ومكتسباتهم مهما كبرت التضحيات، وهذا ما أثبتته المقاومة الاسلامية في لبنان وفي فلسطين على حد سواء، وبهذه الثقافة فرضنا وجودنا بقوة الحق وبالجهاد المقدس في سبيل تحرير الأرض والإنسان والإرادة والحرية والقرار.
*محمد توفيق المقداد