السعادة والشقاء في رحم الأم

السعادة والشقاء في رحم الأم

لم تكن البشرية تجهل قانون الوراثة تماماً فيما مضى ، بل كانوا يجهلون خصوصياتها ، إن علماء الماضي كانوا يعلمون أن في بذرة الزهرة ونواة الشجرة ونطفة الإنسان والحيوان ذخائر تنقل صفات الأجيال السالفة للأجيال اللاحقة.


 إن ما اكتشفه علماء الوراثة اليوم ، وتوصلوا إليه بأبحاثهم الدقيقة من وجود موجودات صغيرة داخل الكروموسومات تنقل الصفات الوراثية والتي أسموها ( الجينات ) ليس أمراً جديداً كل الجدة . فالرسول الأعظم والأئمة الطاهرون عليهم السلام ، الذين كانوا يكشفون الحقائق بنور الوحي والإلهام لم يغفلوا أمر هذا القانون الدقيق . بل أشير إليه في بعض النصوص وأطلق على عامل الورائة فيها اسم ( العرق ) :
عن النبي ( ص ) : « انظر في أيّ شيء تضع ولدك فإنّ العرق دسّاس >>. وحينما نراجع المعاجم اللغوية في معنى كلمة ( دساس ) نجد أن بعضها ـ كالمنجد ـ يعلق على ذلك بالعبارة التالية : « العرق دساس أي : أن أخلاق الآباء تنتقل إلى الأبناء ». 
 فهذا الحديث يتحدث عن قانون الوراثة بصراحة . ويعبر عن العامل فيها بـ " العِرق " . فالنبي ( ص ) يوصي أصحابه بألا يغفلوا عن قانون الوراثة بل يفحصوا عن التربة الصالحة التي يريدون أن يبذروا فيها ، لكي لا يرث الأولاد الصفات الذميمة. 
الإعجاز العلمي للرسول الأعظم (ص) : 
توصل علماء البشر طوال سنين عديدة وبعد جهود عظيمة صرفوها ليل نهار لإدراك بعض الحقائق والوصول إلى أسرار دقيقة . لقد فتحت هذه التحقيقات العلمية باب فهم بعض الآيات والروايات الغامضة الواردة عن الرسول (ص) مما أدى إلى معرفة عظمة شخصية الرسول الأعظم الذي كان يتكلم بلسان الوحي ، ويرى بنور الالهام: 
 « عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : أتى رجل من الأنصار رسول الله ( ص ) فقال : هذه ابنة عمي وإمرأتي ، لا أعلم منها إلا خيراً ، وقد أتتني بولد شديد السواد ، منتشر المنخرين جعد قطط ، أفطس الأنف ، لا أعرف شبهه في أخوالي ولا في أجدادي . فقال لامرأته : ما تقولين ؟ قالت لا والذي بعثك بالحق نبياً ما أقعدت مقعده مني ـ منذ ملكني ـ أحداً غيره قال : فنكس رسول الله رأسه ملياً ، ثم رفع بصره إلى السماء ثم أقبل على الرجل فقال : يا هذا إنه ليس من أحد إلا بينه وبين أدم تسعة وتسعون عرقاً كلها تضرب في النسب ، فإذا وقعت النطفة في الرحم اضطربت تلك العروق وتسأل الله الشبه لها. فهذا من تلك العروق التي لم تدركها أجدادك ولا أجداد أجدادك خذي إليك ابنك . فقالت المرأة : فرجت عني يا رسول الله ».
 إنه لم يمض على الاكتشافات العلمية الحديثة في عالم الوراثة واكتناه الأسرار الدقيقة والرموز المعضلة للجينات والكروموسومات أكثر من قرن واحد ، بينما نجد أن كلام النبي صلى الله عليه وآله في هذا الموضوع يطوي قرنه الرابع عشر . فنبي الإسلام العظيم أخبر عن تلك الحقائق بنور الوحي المبين. 
إن الصفات التي لها قابلية الانتقال من الآباء إلى الأبناء عديدة مثل : الجنون والحمق ، لون البشرة ، لون العين ، بناء الوجه والأنف ، لون الشعر ، والخصائص المرتبطة به وغير ذلك . ولكن العلم الحديث لم يتوصل بعد إلى تحديدها تماماً. 
« ... تتنقل أمراض معينة كالسرطان والسل ... ألخ من الآباء إلى الأبناء ولكن كاستعداد فقط ، وقد تعوق أحوال النمو ظهور هذه الأمراض أو تساعد على تحققها ».  
 وكذلك السجايا الخلقية والصفات الحميدة أو الصفات الرذيلة للآباء والأمهات تهيء استعداداً في الأولاد ، فالآباء والأمهات الذين يمتازون بصفات الشجاعة والكرم والتضحية والخدمة ، يخلفون أبناء ذوي فضيلة وإباء وكرم . وعلى العكس من ذلك ، فإن الأسر المعروفة بالبخل والجبن والأنانية والحمق لا يخلفون في الأغلب إلا أولاداً حقراء لا وزن لهم في المجتمع. 
إن الإسلام يرى أن في سلوك الآباء والأمهات تأثيراً كبيراً على سلوك أبنائهم الذين يرثون صفاتهم الصالحة أو الطالحة ، ولذلك نجد القرآن الكريم يحكي على لسان نوح هذه الحقيقة الناصعة حيث يقول بعد أن يئس من هداية قومه طيلة 900 عام : 
 « رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً » . 
  يتضح هذا جلياً في اختيار الإمام أمير المؤمنين ( ع ) لفاطمة الكلابية ( أم البنين ) بعد وفاة ابنة عمه الصديقة الزهراء ، إذ قال ( ع ) لأخيه عقيل ـ وكان عارفاً بالأنساب ـ : « أخطب لي امرأة ولدتها الفحولة من العرب لأرزق منها ولداً يكون عوناً لولدي الحسين يوم عاشوراء ... الخ » فإن الإمام ينظر إلى شجاعة الأسرة التي يريد أن يخطب منها زوجته لتنجب له ولداً شجاعاً.
 يستفاد مما تقدم أن الطفل في رحم أمه يكون خلاصة لمجموعة من الصفات الظاهرية والمعنوية لآبائه وأجداده القريبين والبعيدين ، وهناك عشرات العوامل المختلفة ( الوراثية والطفرة ) تؤثر فيهم آثاراً صغيرة أو كبيرة ، مفيدة أو مضرة . فإذا كانت هذه العوامل كلها صالحة محبذة وكانت نتائجها حسنة ومفيدة فذلك معنى سعادة الطفل في بطن أمه . أما إذا كانت العوامل ـ كلها أو بعضها ـ فاسدة وسيئة فيعتبر الطفل شقياً في بطن أمه بنفس النسبة من فساد العوامل. 
قال النبي ( ص ) : « الشقي من شقي في بطن أمه ، والسعيد من سعد في بطن أمه ». 
 ولكي يمنع الإسلام من حدوث أولاد أشقياء وأجيال فاسدة وناقصة وضع تعاليم دقيقة وسلك أوضح السبل لإلزام أتباعه بالعمل بها ، فوضع أصول التربية الإسلامية الدقيقة التي تعدل من سلوك الأفراد ، فيمنع ذلك من ظهور الصفات الرذيلة في أعقابهم . وكذلك نجد قوانين الأمم المتحضرة اليوم تهتم بهذا الموضوع فوضعت قوانين لم تتعد دائرة الوضع والتقنين ولم تصل إلى حيز التنفيذ . وعلى سبيل الاستطراد نستعرض بعض التعاليم الإسلامية بهذا الصدد باختصار : 
 الجنون : 
 الجنون من الصفات الخطرة التي تنتقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء . إن الأبوين المصابين بالجنون لا ينتجان إلا مجانين ، وهذا هو قانون طبيعي غير قابل للتبديل ، والمولود المجنون ليس شقياً لنفسه فحسب بل يسبب شقاوة المجتمع أيضاً. 
 لقد قرر الإسلام تسهيلات قانونية لفسخ الزواج في بعض الموارد ومن تلك الموارد : الجنون ، فإذا تزوجت المرأة من رجل ظناً منها بأنه فرد عاقل ثم انكشف لها جنونه فلها الحق في أن تفسخ عقد الزواج بنفسها من دون حاجة إلى القيود الموجودة في الطلاق ، وكذلك الرجل بالنسبة إلى زوجته المجنونة. 
 وهذا القانون مضافاً إلى أنه يحرر كلاً من الرجل والمرأة من القيود والأضرار الناشئة من جنون شريكته ( أو شريكها ) في الحياة ، يضع حداً فاصلاً دون ازدياد أفراد مصابين بالجنون في المجتمع. 

 الحمق والبلادة : 
 وكذلك الحمق والبلادة والبله فإنها تنتقل من الآباء والأمهات إلى الأبناء ، الأمر الذي يسبب أقسى أنواع شقاء المجتمع ، فالفرد الأحمق يظل طوال سني عمره أسيراً للحرمان العقلي وعدم النضج الفكري مما يسبب للأمة مشاكل عديدة. 
 ولقد توصل العلم الحديث ، بعد التجارب العديدة والإحصائيات الدقيقة إلى خطر هذا النوع من الزواج ، ولذلك أخذ العلماء يحذرون الناس منه : 
 « يجب أن يعلم كل فرد أن التزوج من الأسر المصابة بالجنون أو الحمق أو البلادة ، أو الإدمان على الخمرة يؤدي إلى تحطيم كيان المجتمع وهدم قانون التكاثر والتناسل ، مما يجر معه سلسلة من المعايب والجرائم التي لا تحمد عقباها » 
 لقد نظر منقذ البشرية العظيم بعين الوحي النافذة إلى الحقائق إلى هذا الموضوع ، وأدرك أخطاره فحذر المسلمين منه ولذا نرى الإمام الصادق عليه السلام يروي عن النبي ( ص ) : « إياكم وتزوج الحمقاء ، فأن صحبتها بلاء 
وولدها ضياع »  . وأحسن تعبير عن الأولاد الناتجين من آباء أو أمهات مصابين بالحمق هو الضياع.
 « لقد لاحظ ( كدار ) في إحصائياته الدقيقة التي أجراها على الأسر التي كان آباؤها أو أمهاتها مصابين بضعف العقل وجود ( 470 ) طفلاً ضعيفي العقل منهم و ( 6 ) فقط سالمين وبديهي أن إيجاد جيل منحط ومجرم وأبله يعد خيانة كبيرة ».  
وهنا نقطة مهمة يجب الالتفات إليها ، وهي أن السعادة والشقاء اللتان تصيبان الطفل في رحم الأم ، على نوعين : فقسم منها يكون قضاء حتمياً لا يقبل التبديل . فهذا النوع يلازم الطفل حتى نهاية حياته ، ومن هذا القسم : الجنون والعمى المتأصل . وقسم آخر يكون الرحم بالنسبة إليه كتربة مساعدة فقط وحينئذ يكون بقاء تلك السعادات أو الشقاوات دائراً مدار الظروف التي تساعد على نموها. 
 إن القاعدة العامة للوراثة تقتضي أن ينجب الآباء المؤمنون والأمهات العفيفات أولاداً طيبين، فهؤلاء يمكن أن يحرزوا السعادة في أرحام أمهاتهم فلا توجد في سلوكهم عوامل الانحراف الموروثة . إلا أننا لا نستطيع الحكم على هؤلاء بأن ينموا وينشأوا ويعيشوا إلى الأبد كذلك إذ قد يصادفون بيئة فاسدة تعمل على انحرافهم وتغيير سلوكهم وسجاياهم الموروثة وقلبها رأساً على عقب ، وأخيراً نجد هذا الطفل الذي كان سعيداً في بطن أمه يعد في صفوف الأشقياء ويصير جرثومة للفساد والمجون والاستهتار. 
 وهكذا الطفل المولود من آباء وأمهات لا يعرفون عن الإيمان شيئأً فإنه يعتبر شقياً في رحم أمه ـ تبعاً لقانون الوراثة ـ لكن قد يصادف بيئة صالحة وتربية جذرية تعمل على استئصال العوامل الشريرة من داخل نفسه وأخيراً يكون من الأتقياء المؤمنين والأفراد الصالحين في المجتمع. 
 ولهذا نجد النبي ( ص ) يصرح : « السعيد قد يشقى ، والشقي قد يسعد ». 
 وقد ورد عن الإمام علي ( ع ) أنه قال : « السعيد من وعظ بغيره والشقي من انخدع لهواه وغروره ». 
 وبصورة موجزة نقول : إن السعادة تحصل للإنسان من مجموعة عوامل طبيعية ( وراثية ) وتربوية . وكذلك الشقاء ... ولقد أوضح الإمام الصادق ( ع ) هذا المبدأ في عبارة مختصرة فقال : « إن حقيقة السعادة أن يختتم للمرء عمله بالسعادة . وإن حقيقة الشقاء أن يختتم للمرء عمله بالشقاء ». 
 إن هذه الرواية تدلنا على حقيقة واضحة ، هي أنه يجب الإحاطة بجيمع العوامل الوراثية والتربوية للفرد ، والنظر إلى نتيجة تفاعلاتها ثم الحكم عليه بالسعادة أو الشقاء. 

المصدر: الطفل بين الوراثة والتربية – الشيخ محمد تقي فلسفي.

يا فاطمة، أما ترضيني أن تكوني سيدة نساء المؤمنين،أو سيدة نساء هذه الأمّة’(الرسول الأكرم)
يقول تعالى: ﴿... وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾
الإمام الباقر عليه السَّلام: ’ لكل شيء ربيع، و ربيع القرآن شهر رمضان ’.
عن النبي صلى الله عليه وآله: ’التوبة حسنة لكنها في الشباب أحسن’

من نحن

موقع ديني ثقافي وفكري يعنى بقضايا المرأة والاسرة والمجتمع

تواصل معنا

يسرّنا تواصلكم معنا عبر الايميل alzaakiyaa@gmail.com